في زمنٍ تتكاثر فيه الألقاب، صار بعض الناس يعتقد أن الشهادة العليا جواز مرورٍ إلى صوابٍ أبدي، فما أن تُضاف كلمة «دكتور» إلى الاسم حتى يتحول الرأي الشخصي إلى فتوى معرفية، والميل العاطفي إلى «نتيجةٍ علمية»، ويصبح الخلاف مع صاحبها نوعاً من التجرؤ الوقح على الحقيقة، رغم أن الحقيقة لا ترتدي، حسبما أعرف، روب التخرّج!
العلم، مهما علت درجته، لا يهب صاحبه عصمةً فكرية، بل يُفترض أن يمنحه تواضعاً معرفياً يدفعه إلى الشك أكثر مما يمنحه يقيناً، غير أن كثيرين ممن بلغوا أعلى الدرجات الأكاديمية يخلطون بين المعرفة كأداةٍ للفهم والمعرفة كوسيلةٍ للتأثير والسيطرة، فترى بعضهم يتحدث في قضايا الإنسان والحياة والحب والروح والمجتمع، كما لو أن سنوات دراسته منحتْه مفاتيح الكون، بينما كل ما منحته في الحقيقة هو منهجٌ للتساؤل لا منصةً للخطابة.
أحياناً يكون أكثر ما يُسيء إلى الفكرة هو من يتحدث باسمها، خذ عندك العلوم الاجتماعية مثلاً، حيث لا وجود لـ«مختبرٍ» يُثبت النظريات كما في الفيزياء أو الكيمياء، فالإنسان ليس أنبوب اختبار، والمجتمع لا يخضع للقياس بدرجة الحرارة ولا بمعادلات الضغط، وكل ما لدينا هو محاولاتٌ لفهم السلوك البشري وسط متغيراتٍ لا نهائية، ومع ذلك تجد من يُحوّل هذه «المحاولات» إلى يقينٍ مقدّس، ومن يتكئ على دراسته ليُلبس رأيه الشخصي ثوب العلم، فيُصبح ما يحبّ «مؤيَّداً بالدراسات»، وما يرفضه «خرافةً لا دليل عليها»!
العلوم الاجتماعية بالذات أكثر المجالات التي تحتاج إنساناً قبل أن تحتاج خبيراً، لأنها تتعامل مع بشرٍ لا يمكن عزلهم عن تجاربهم، ومجتمعاتٍ تتغير أسرع من أن تُقاس بمعادلاتٍ جامدة، ومن الخطأ أن يظنّ الأكاديمي أن دراسته تمنحه سلطةً على الحقيقة، بل ربما تمنحه مسؤوليةً أكبر في تذكير الناس بأن الحقيقة أوسع من أي تخصصٍ، وأعمق من أي جامعةٍ تمنح ألقاباً على الورق!
الشهادة العليا تُعلّم صاحبها كيف يبحث، لا ماذا يقول، وتعطيه المنهج لا النتيجة، والشك لا الإفتاء، ولكنّ كثيرين لا يطيقون فكرة «لا أدري» فيتحولون من عالِم محتملٍ إلى مروِّجٍ أكاديمي، ويلبسون عناوين معقدة على آراءٍ بسيطة، فيبدو رأيهم عميقاً لمن لا يقرأ، لكنه في الحقيقة فارغ لمن يفهم أن العمق الحقيقي لا يُقاس بطول السيرة الذاتية.
ولأننا نعيش في زمنٍ يُعلي الشكل على المضمون، صار الناس يخلطون بين الاختصاص والسلطة، فالطبيب النفسي يمكنه أن يشرح لك الدماغ، لكنه لا يملك الحق في تعريف «السعادة»، والعالم الاجتماعي يستطيع تحليل الظواهر، لكنه لا يملك مفاتيح ضمائر الناس.
العلم، حين يفقد تواضعه، يتحول إلى دينٍ جديد يفرض وصاياه بلغة الإحصاءات، وكأن الأرقام وحدها تستطيع أن تفسّر الروح، والعلم الحقيقي لا يرفع رأسه ليتعالى، بل ينحني ليفهم، والباحث الصادق لا يقول «أنا أعلم»، بل يقول «أنا أبحث»، فالشهادة لا تصنع إنساناً مفكراً بقدر ما تكشف أي نوعٍ من البشر أصبح هذا المتعلم بعد أن حملها، هل زادته معرفةً أم غطرسة، وهل جعلته يتحدث أقل ليستمع أكثر؟
الشهادات العليا ضرورية للتقدّم، لكنها ليست تصريحاً بالاحتكار الأخلاقي أو الفكري، فكم من أستاذٍ يشرح نظريات التواصل وهو عاجزٌ عن الاستماع، وكم من باحثٍ في «السلوك الإنساني» لم يتعلّم بعد كيف يعتذر عن أصغر أخطائه، والدرجات العلمية لا ترفعنا فوق الآخرين، بل تذكّرنا كم نحن صغار أمام ما نجهل.
العلم يا أصدقائي ليس سُلطة، بل أمانة، ومن يخلط رأيه الشخصي بالحقائق التي لم تُختبر بعد، يُشبه من يكتب اسمه على رمال الشاطئ... ثم يظنّ أن البحر سيحفظ اسمه للأبد!!
نقلا عن جريدة القبس
واقرأ أيضًا:
لا تعتزل... ما يؤذيك! / الأذكياء... الذين لا ينجحون!
