المواطنة والعلاقة بغير المسلمين10
ديننا دين الرحمة، ولا تحس القلوب بالرحمة وهي مملوءة بالعداء، لأن العداوة تولد البغضاء وتصاحبها، أما الرحمة فهي وليدة المودة ورفيقتها. كان النبي ﷺ يدعو لقومه بالهداية بكل صدق في أشد مواقف الإيذاء الذي ناله منهم. لن نستطيع أن نهدي البشرية ما لم نحبها، ولن يهتدوا ما لم يحبونا، ولن يحبونا إن لمسوا منا الجفاء والكراهية. إن كنا نريد أن نكون على خطا محمد ﷺ وأن نخرج الناس من الظلمات إلى النور كي ننال رضى الله وثوابه العظيم فعلينا أن نكون مثله رحمة للعالمين، والعالمين في القرآن تعني كل الشعوب مؤمنها وكافرها، بل وتعني غير البشر من مخلوقات. إن تبليغهم الرسالة ونحن نستشعر الكراهية لهم ليس هو البلاغ المبين الذي يقيم عليهم الحجة ويبرئ الذمة، ألم يوص ربنا موسى وهارون أن يتلطفا في دعوة فرعون وأن يقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو أن يخشى فيهتدي وينجو من عذاب الله. أرأيتم إلى التجار والباعة الذين يريدون أن يبيعوا بضاعتهم كيف يتقربون إلى الزبائن وهم كلهم حرص على كسب مودتهم وإعجابهم، ألسنا تجاراً مثلهم بضاعتنا هي دعوة الحق؟ يقول الشافعي:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولســت بهيّاب لمـن لا يهابنـي ولسـت أرى للمرء ما لا يرى ليـا
فإن تدن مني تدن منك مودَّتـي وإن تَنْــأ عنـي تلْقني عنـك نائيـاً
كلانا غني عن أخيه حياته ونحـن إذا متنــا أشـــد تغانيـــا
عندما ترضى عن إنسان فإنك لا تكاد ترى إلا محاسنه، وإن أنت لم تر فيه إلا محاسنه فإنك ستعجب به ثم تحبه، وبالمقابل إن كنت ساخطاً على إنسان فإنك لا تكاد ترى فيه إلا معايبه، وعندها يستحيل أن تعجب به وأن تحبه. كيف سنكسب قلوب البشر لنجعلهم يعجبون بنا ويحبوننا فيدخلون في ديننا الحق؟ إننا نمتلك أغلى وأرقى وأهم سلعة يمكن للبشرية أن تعرفها لكننا تجار فاشلون، ننفر زبائننا منا بدل أن نجتذبهم إلينا. أطلقوا لقلوبكم العنان، واتركوها تحب وترحم كل شيء، وكل بشر، ولا تكون شدتها إلا على من يحاربها في دينها أو يخرجها من ديارها، وعندها سنتحول إلى أذكى وأمهر تجار، وسيكثر زبائننا ويدخلون في دين الله أفواجاً.
الســـلام على الكـافــر
لم يستطع اليهود بالمدينة المنورة التحكم بمشاعر الكره والحقد والحسد والازدراء التي امتلأت بها قلوبهم نحو النبي ﷺ ونحو أصحابه، فصاروا إذا التقوا بأحد منهم يقولون له: (السّامُ عليكم) والسّام هو الموت، فهو دعاء على النبي ﷺ أو على الصحابي بالموت، يدعونه وهم يتظاهرون أنهم يلقون السلام، لأن كلمتي السّام والسلام قريبتان في اللفظ. لم تنطلِ حيلتهم على محمد ﷺ، فصار لا يقول في رده على تحيتهم إلا كلمة وعليكم، فإن كان السلام رده إليهم وإن كان السّام ارتد عليهم، ولم يجعل منها قضية، لأنه حليم، وليس من عادته أن يغضب لنفسه، بل لا يغضب إلا لله. لم تمر الأمور بسلام حيث جاء يهود إلى النبي ﷺ وعنده زوجه عائشة رضي الله عنها وحيوه بالسّام بدل السلام، فغضبت عائشة وردت عليهم بعنف، فعلمها النبي ﷺ أن الرفق أخلق بالمؤمن وتوجه بتعليمٍ لأصحابه أنهم إن سلم عليهم أهل الكتاب "وهذا كان الاسم المستعمل لليهود في المدينة في الغالب" أن يقتصر ردهم على كلمة وعليكم.
لنقرأ هذه الأحاديث الشريفة:
• دخَل رَهطٌ من اليهودِ على رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: السَّامُ عليكم، قالتْ عائشةُ: ففَهِمْتُها، فقلْتُ: وعليْكُمُ السَّامُ واللَّعْنَةُ، قالتْ: فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَهْلًا يا عائشةُ، إن اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كُلِّه». فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أو لم تسمَعْ ما قالوا؟ قال رسولُ اللهِ ﷺ: «قد قلْتُ: وعليكم» (رواه البخاري).
• أتى اليهود النبيَّ ﷺ فقالوا: السّامُ عليك، قال: (وعليكم). فقالتْ عائشَةُ: السّامُ عليكم، ولعَنَكمُ اللهُ وغضِبَ عليكم، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَهلًا يا عائشَةُ، عليكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ، أو الفُحشَ». قالتْ: أولم تسمَعْ ما قالوا؟ قال: «أو لم تسمعي ما قلتُ، ردَدْتُ عليهم، فيُستَجابُ لي فيهم، ولا يُستَجابُ لهم فيَّ». (رواه البخاري).
• كان اليهودُ يُسَلِّمونَ على النبيِّ ﷺ يقولونَ: السّامُ عليك، ففطِنَتْ عائشةُ إلى قولِهم، فقالتْ: عليكمُ السّامُ واللعنةُ، فقال النبيُّ ﷺ: «مَهلًا يا عائشةُ، إن اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه». فقالتْ: يا نبيَّ اللهِ، أولم تسمَعْ ما يقولونَ؟ قال: «أولم تسمَعي أني أرُدُّ ذلك عليهِم، فأقولُ: وعليكم». (رواه البخاري).
• مرَّ يهوديٌّ برسولِ اللهِ ﷺ فقال: السّامُ عليكَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (وعليكَ). فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتدرونَ ما يقولُ؟ قال: السّامُ عليكَ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، ألا نقتُلُهُ؟ قال: «لا، إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتابِ، فقولوا: وعليكُم» (رواه البخاري).
• «إذا سلّم عليكم اليهود، فإنما يقول أحدهم: السّام عليك، فقل: وعليك» (رواه البخاري).
• «لا تبدَؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلامِ. فإذا لقِيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطَرُّوه إلى أضيَقِهِ» (رواه مسلم).
• «إذا لقِيتم أهلَ الكتابِ وفي رواية: المشركين، فلا تبدؤوهم بالسلامِ، واضطَّروهم إلى أضيقِ الطريقِ» (رواه البخاري في صحيح الأدب المفرد وصححه الألباني).
• «لا تبدَأوا اليَهودَ والنَّصارى بالسَّلامِ، وإذا لقيتُم أحدَهُم في الطَّريقِ فاضطرُّوهم إلى أضيَقِهِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).
كان النبي ﷺ كثيراً ما يقول أهل الكتاب ويقصد يهود المدينة مع أنهم ليسوا هم كل أهل الكتاب، إذ هنالك باقي اليهود المشتتين في بلدان كثيرة، وكان هنالك أيضاً النصارى الذين يشكلون أمماً كاملة. وحتى القرآن الكريم يقول أحياناً أهل الكتاب ويكون المقصود هم يهود المدينة. لم يكن يحصل أي لبس أو إشكال في الفهم لدى السامعين، فالعرب تقول الناس وتقصد بعض الناس مثل باقي الأهل أو الجيران أو العشيرة، مع أن كلمة الناس المعرفة باللام والألف يمكن أن تعني البشرية كلها، وعلى العادة نفسها كان النبي ﷺ يقول أهل الكتاب، ويقصد قلة قليلة منهم، أي يهود المدينة، مع أن هذه الكلمة يمكن أن تعني جميع أهل الكتاب في كل زمان ومكان.
أراد ﷺ أن يحذر أصحابه من أذى يهود المدينة فأمرهم أن لا يبدؤوا أهل الكتاب بالسلام، وأن يردوا عليهم سلامهم بكلمة (وعليكم) فقط. وصلتنا نصيحته وتحذيره لأصحابه لا تبدؤوا اليهود والنصارى أو ولا النصارى بالسلام... الحديث. ويبقى التساؤل هل حذر النبي ﷺ صحابته وأمرهم ألا يبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، مع أن الذين كانوا يؤذونهم هم اليهود، ولم تذكر السيرة أنه كان يعيش في المدينة يومها أي نصراني؟ أم أنه قال لهم لا تبدؤوا أهل الكتاب بالسلام وحصل إبدال هذه الكلمة في ذاكرة أحد الرواة بما تعنيه عادة أي اليهود والنصارى؟ كلا الاحتمالين وارد. المهم سياق الأحداث يبين بما لا يدع مجالاً للشك أن النهي عن بدئهم بالسلام كان إجراءً احترازياً مخصوصاً بزمانه ومكانه والناس المقصودين به.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين12
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1
