في مسرح الحياة هنالك أمور محيّرة، أحدها أن الذكاء، ذلك الشيء الذي نتباهى به ونعتبره تذكرة الدخول إلى عالم النجاح، قد يتحول أحيانًا إلى حملٍ ثقيل على صاحبه، فالعقل الذكي يشبه محرّك بحثٍ هائل، قادرٍ على توليد مليون نتيجة لسؤالٍ واحد، بينما كل ما يحتاجه أحدنا حقًا هو إجابةٌ واحدة نبدأ منها، وبينما يرى الذكي عشرة احتمالاتٍ لكل خطوةٍ فيقضي حياته يحلّل ويقارن ويعيد الحسابات، يعبر ذلك الشخص «العادي» الشارع ببساطةٍ مزعجة، لا لأنه الأذكى أو الأشجع، بل لأنه لا يرى إلا طريقًا واحدً... ولهذا بالضبط يصل!
دعونا نتفق على أن الذكاء ميزة في حد ذاته، لكن المدهش هو أنه يصبح لعنة حين يتسبب بما يسميه علماء النفس بـ«شلل التحليل»، فالشخص الذكي لا يبحث عن حل «جيد»، بل عن الحل «الأمثل»، وهو كائن أسطوري لا وجود له إلا في عالم الخيال، فيظل صديقنا الذكي حبيساً في مختبره العقلي، يصمم الخطة المثالية، ويرسم السيناريو الكامل، وينتظر اللحظة الكونية التي تتوافق فيها كل الظروف، ولأن هذه اللحظة لن تأتي أبداً، تجده لا يبدأ على الإطلاق!
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد مع بعض الأذكياء، فهناك نزعة الكمالية، تلك اللعنة الأنيقة التي تتنكر في زي الطموح، فمع صاحبنا الذي تشكلت هويته كلها على كونه «الذكي»، لا يعد ارتكاب خطأ تجربة للتعلم، بل هو زلزال وجودي يهدم الصورة التي رسمها لنفسه، لذلك، يصبح تجنب الفشل أهم بكثير من تحقيق النجاح، فينسحب من السباق ليس لأنه لا يستطيع الفوز، بل لأنه لا يحتمل فكرة أن يكون في المركز الثاني، ليجلس على الرصيف يشاهد الآخرين يركضون، وهو يلعن السباق!
وبينما يظل الأذكياء عالقين في هذه الدوامة، يتقدم في المقابل أولئك «العاديون» الذين لا يحملون عبء الذكاء الثقيل، ليس لأنهم أفضل، بل لأنهم أخف، فهم يتعاملون مع الحياة كمسودة قابلة للتعديل، يقعون فينفضون الغبار ويكملون، يفشلون فيضحكون على أنفسهم ويجربون مرة أخرى، لا يملكون ترف التفكير الزائد، لكنهم يملكون نعمة الفعل المباشر، أقدامهم تتحرك أسرع من عقولهم فيصلون لأهدافهم بينما الأذكياء ما زالوا يرسمون خريطة الطريق!
الحياة يا أصدقائي تنتصر لمن يمتلك الجرأة على الخطوة الأولى على من يملك أذكى العقول، وتتحالف مع من يقدم إجابة «جيدة بما يكفي» بدلاً من انتظار الإجابة «المثالية» التي لن تأتي، وتكافئ من يدرك أن أعظم الأفكار تموت في صمت إذا لم تجد قدمين تحملانها من عالم التفكير إلى عالم الفعل!
ولعل أبسط طريقة لمعرفة إن كان صديقنا الذكي قد تحرر من سجنه العقلي أم لا، هي أن تسأله عن آخر مرة فعل فيها شيئاً سخيفاً وضحك على نفسه، فإن تلعثم في الإجابة، فاعلم أنه ما زال سجيناً في قصر عقله الفخم، ينتظر الكمال الذي لن يأتي، بينما الحياة تمضي في الخارج، وتترك خلفها أولئك الذين فكروا كثير.... وعاشوا قليلاً!
نقلا عن جريدة القبس
واقرأ أيضًا:
الأصدقاء الذين لا نراهم! / لا تعتزل... ما يؤذيك!
