يبدو عليهم الاطمئنان التام، أولئك الذين لا يرفعون أصواتهم أبداً، لا يغضبون، لا يعاتبون، يبتسمون بتوقيت مثالي، ويهزون رؤوسهم بتفهم بارد، كأنهم اكتشفوا سر السلام الداخلي، لكن خلف هذا الهدوء المبالغ فيه، غالباً ما يكون هنالك ضجيج هائل لا يسمعه أحد!
هؤلاء المبالغون في الهدوء ليسوا حكماء بالضرورة كما نتوهم، فكثيرون منهم مجرد أناس أنهكهم التعب من الشرح المتكرر والجدال العقيم، من المحاولات الفاشلة في إيصال صوتهم لآذان صماء، فاختاروا الصمت ليس كفضيلة، بل كملاذ أخير، لأنهم اكتشفوا أن الانفعال يستنزف أكثر مما يُصلح، وأن الغضب في عالم لا يسمع يشبه الصراخ في كهف مهجور!
الهدوء عند كثير من الناس ليس طبعاً أصيلاً، بل استراتيجية نجاة، فهو جدار يحمون خلفه ما تبقى من طاقتهم المتآكلة، هؤلاء يتقنعون بالتوازن لأنهم أدركوا أن الغضب صار ترفاً باهظ الثمن، وأن التماسك الظاهري قد يكون آخر ما يملكونه في عالم ينهار من حولهم قطعة قطعة!
المفارقة أن هذا الهدوء المصطنع نادراً ما يُقدَّر، فمجتمعاتنا تكافئ الصاخبين، تسمع من يصرخ وتتجاهل من يهمس، تحترم من يطالب بقوة وتزدري من يصمت بكرامة، حتى صار الصمت يُترجم تلقائياً كضعف أو رضا، وكأن المشاعر لا تُحترم إلا حين تنفجر علناً!
هؤلاء يمرون بعواصفهم الداخلية بوجوه متحجرة وقلوب تتفتت ببطء، يواسون الجميع بينما لا أحد يلاحظ حاجتهم للمواساة، يتحدثون عن الصبر والحكمة كأنهم ورثوها، بينما هم في الحقيقة يمارسون شكلاً متقدماً من الانهيار المنضبط، انهياراً صامتا لا يزعج أحداً.
الهدوء المستمر عبء ثقيل يحمله صاحبه كل يوم، محاولة مضنية لكبح الانفعالات، لتقييد الغضب المشروع، لتأجيل الانفجار إلى أجل غير مسمى، ومع الوقت يتحول هذا الكبت إلى تبلد عاطفي، حيث لا يعود المرء يميز بين السكينة الحقيقية والخدر النفسي، بين السلام الداخلي والموت البطيء للمشاعر.
إنهم عالقون في منطقة رمادية بين النضج والإنهاك، بين القبول والاستسلام، يبدون أقوياء من الخارج لكنهم من الداخل يحملون هشاشة مؤلمة، لا يطلبون شيئاً سوى أن يمر اليوم بسلام دون خسائر إضافية، دون أسئلة تخترق دفاعاتهم الهشة.
أثقل ما في الأمر هو التظاهر اليومي بالقوة كي لا نُقلق أحداً، يبتسمون باستمرار كي لا تُساء قراءة ملامحهم، ويقولون «نحن بخير»، بينما كل خلية فيهم تصرخ بالعكس، هذا الأداء المتواصل يستنزفهم أكثر من أي صراع مباشر.
هؤلاء لا يحتاجون من يعظهم بفضائل الصبر، فهم أساتذة فيه رغماً عنهم، بل يحتاجون من يذكرهم أن للغضب مكاناً مشروعاً في الحياة، وأن التعبير عن الألم ليس ضعفاً، وأن الهدوء الدائم قد يكون قناعاً للإرهاق أكثر منه دليلاً على الحكمة.
القلب يا سادة مهما بدا صامتاً يحتاج أن يرفع صوته أحياناً ليتأكد من وجوده، والصمت إن طال أكثر من اللازم يتحول إلى صرخة مكتومة تخنق صاحبها قبل أن تصل لأي أذن، فليس كل هدوء سلاماً، وليس كل صمت حكمة، وأحياناً يكون ذلك الهدوء تعبا ثقيلا.. قرر ارتداء قناع الاتزان!
واقرأ أيضًا:
عقول.. لتبرير العواطف! / راحة... تقتل الشغف!
