يبدو أن الفكر العربي القومي صار يعاني مؤخرا من هجمات ذات مصادر ثلاثة، هي الفكر الليبرالي المتواطئ مع الفكر الاستعماري الحديث والعولمة، التيارات الإسلامية الأميّة والجهل الثقافي العربي الذي غزى كل شيء، حتى أنه قد طال قواعد الإملاء العربي.
لفهم الفكر القومي فإننا بحاجة أن نجيب على سؤالين مهمين هما:
من هم العرب وأين ينتشرون؟
ما طبيعة الفكر القومي العربي وفلسفته؟
لذا لنبدأ بالفكر القومي العربي:
- من هم العرب وأين ينتشرون؟
العرب اسم حديث نسبيا يمتد لثلاثة آلاف سنة فقط، إذ أننا لم نأتِ من الفراغ في هذه المناطق، بل حملنا إرثا عن أجدادنا الأوائل من بابليين وآشوريين وسومريين ومصريين وفينيقيين وغيرهم. نتصل نحن بهذه الحضارات من خلال تقاربنا الثقافي الهائل معها، فهل تعرف عزيزي القارئ أن اللغة العربية مشتقة من اللغة الآكاديّة التي هي أساس اللغة البابلية والسومرية والآرامية والعبرية والعربية أيضا؟ أتعرف أيضا أن أصل العرب من وادي الرافدين وليس من اليَمَن كما تدعي النظريات القاصرة القديمة؟ العرب أقدم مما تظن، وإذا كان اسمنا "العرب" قد تشكل منذ ثلاثة آلاف سنة، فإن عروقنا وأجدادنا هم حكام بابل وسومر وآشور وتدمر وعمورية والبتراء ومصر حتى. محزن حقا (حقا حقا) أن تمر على الإنسان العربي أخطر عملية غسيل دماغ بتاريخنا بتعاون تيارات تدعي التطور وحقوق الإنسان ضدنا.
نحنُ أقدم أمّة وحضارة على وجه الأرض، ولا يوجد كردي أو إسرائيلي أو جنيا أحمرا أو أخضرا بقادر على هزيمتنا تاريخيا. وبلى، العودة للتاريخ مهمة، إلا أن الأعراف التاريخية تقر بأن الأمة والحضارة الحقيقية لا تتم إلا برصيد ألفي عام من التراث والثقافة المتواصلة، وهذا أمر لم أستنبطه فحسب، بل تأكدت منه بأعتى وأهم دوائر علم التاريخ بالعالم. إذا كنا متصلين بأصحاب الأرض منذ سبعة آلاف سنة فبأي حق يُستولى عليها من قبل غيرنا وننسب لمكان ضيق محدود من أرضنا؟
ثم يا صديقي القارئ، يجب أن تنتبه لأمر مهم، وهو المساعي الثقافية الإسرائيلية لقطع الصلة بين العرب وتاريخهم، وتحجيمه لفترة الفتح الإسلامي، وهذا خطأ فظيع. إن التواجد العربي في العراق وبلاد الشام مثلا يعود لأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو ببساطة الزمن الذي تبلور به اسم "عربي" بعد الهجرات الكثيفة من بابل والشام لليمن (وليس العكس)، أما الوجود العربي فهو أبعد من هذا لغةً وثقافةً، كالوجود الغساني والقحطاني والفينيقي وغيره من الدول والممالك الصغيرة كلخم في الحيرة وجنوب العراق، ومملكة تدمُر (بالميرا) في سوريا وكذلك الأنباط. حتى اسم "سوري" ما هو إلا اسم "آشوري" باللهجة اليونانية، فالآشوريين هم السوريون عند اليونان.
إن إدراك أي شعب لماضيه وجذور ثقافته، لهو سبب قوي جدا لصموده وتمسكه بأرضه، وهذا ما أدركه الصهاينة وعملوا على زحزحته عند العرب سواء باستخدام كتاب ليبراليين أو متطرفين دينيين مسيحيين أو غيرهم. وعلى هذا الأساس أيضا، يحاول الأكراد والصهاينة وكل محتل لأرضنا أن يقدم وثيقة مزورة لوجوده تاريخيا بالمنطقة، وأضعفها هي الوثائق الكرديّة.
الخلاصة من هذه النقطة هي التالية:
نحن العرب لا نمتد لشبه الجزيرة العربية، بل لنا أصول منتشرة في منطقة الهلال الخصيب ومنذ 7000 سنة، وما لغتنا القريبة من الآكادية (أقدم لغات المنطقة) إلا دليل قاطع على ميراثنا الثقافي الكبير.
- ما طبيعة الفكر القومي العربي وفلسفته؟
لو راجعت شقيقي القارئ كتاب "حول القومية العربيّة" للفيلسوف العربي "أبو خلدون ساطع الحُصَريّ" ستجد أنه لا ينظر للعرب كعرق صافٍ لا تشوبه شائبة من باقي الأعراق (هذا رأي كل فلاسفة القومية العربية في القرن العشرين والقرن التاسع عشر)، وإنما كثقافة تعتمد على نظرية "البلورة الثقافية" وكذلك نظرية "القومية الحضارية". أما البلورة الثقافية، فإن الفلاسفة العرب توصلوا إلى أن العرب هم خليط من أجزاء بلورية صغيرة متجمعة، لتؤلف بلورة كبيرة تحوي ألوانا ثقافية عدة، إلا أنهم جميعا تؤلف ما نسميه اليوم بالثقافة العربية الحديثة.
هذه الثقافة ومثيلاتها من الثقافات (الأمريكية والبريطانية والرومانية القديمة) لا تطرأ على جميع الأمم، بل تطرأ على الأمم القوية ذات الماضي أو الحاضر القوي، والذي تمكنت من أن تصل من القوة والتسامح والرقي درجة تسمح للغير بالانضواء تحت علمها. من هنا، نؤمن أن قوميتنا هي قومية ثقافية، شاركت في إنشائها كرّاسات الثقافة البابلية، الكتابات المصرية، الرحلات الفينيقية، الممالك القديمة العربية في الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية. لو أنكَ لاحظت أو تتبعت أصول أشهر مشاهيرنا، ستجدهم من أصول مترامية، فتارة يكون أصل شكري القوتلي (الرئيس السوري الكبير) من العراق، وتارة يكون أصل عبد القادر الجزائري من سوريا (من السادة) وتارة يكون عمر المختار من جبال الأطلس. هذا دليل صارخ على أننا شعب واحد اختلط عبر القرون وزادته الأيام التحاما.
إن العروبة هي قدرنا، ولا يمكن إلا أن نكون عربا، لأن أهم أسس القومية العربية كما يقول ساطع الحصري هي "اللغة والتأريخ" وليست "العرق"، ويمكنك أن تقرأ هذا بكتابه "ما هي القومية":
{إن وحدة الأصل لا يجوز أن تعتبر من الصفات المميزة للأمة، بوجه من الوجوه. لأنه في الواقع أن أبناء الأمة الواحدة يعتبرون بعضهم بعضا أقارب وأشقاء، كأنهم منحدرين من أصل واحد، كما أنهم يسمون أسلافهم باسم الأجداد بوجه عام. ولكن هذه القرابة التي يشعر بها ويتكلم بها أبناء الأمة الواحدة هي قرابة معنوية، تنشأ من الروابط الاجتماعية المختلفة - ولاسيما من الاشتراك في اللغة والتاريخ ;- فلا تدل بوجه من الوجوه على قرابة الأصل والدم. ص45}.
أيضا، القومية العربية ما كانت أصلا أو حاولت أن تكون مذهبا فكريا أو عقيدة حياتية، وإنما كانت فكرا سياسيا بحتا، يحدد هوية العرب واتصالاتهم الثقافية والفكرية، وتحاول القومية العربية أن تخلق مجتمعا عربيا يؤمن بتاريخه ويستمد منه التصميم على الاتحاد ومقاومة الهجمات الخارجية. إن دستور البلاد العربية أو عقيدة الدولة الفكرية لم تكن يوما من تخصصات الفكر القومي، لأن الفكر القومي هو وعاء الدولة، بينما ما يدخل في هذا الوعاء هو نظام معقد يحوي علمانية محافظة ونظاما اقتصاديا رشيدا، ويمكن أن يكون نظاما اشتراكيا مطورا أو رأسماليا أو شيوعيا أو إسلاميا حتى!، لذا لا توجد أي علاقة أو تضارب بين القومية العربية وبين الإسلام كما يزعم الإسلاميون (أو بين الأعراق الأخرى والعرب كما يزعم الشعوبيون)، إلا عند أولئك الذين يريدون أن يعتبروا الإسلام الانتماء الوحيد، وأن الشعوب بحاجة لأن تضع تريخها ولغاتها وحضاراتها بأقرب سلة للمهملات كي تنعم بنظام الخلافة، ضاربين بعرض الحائط كل تجاربهم وظروفهم والخلافات الطائفية الإسلامية ذاتها والمنعكسات التاريخية.
القومية التي نريد لا تنحو منحى التجربة البعثية التي تلغي التعددية السياسية وتقيم حزب قومي واحد. القومية التي نؤمن بها هي إقامة دولة عربية ذات عوامل منها:
أ- ثقافي:
1- أغلبهم ذوي انتماء ديني واحد، بعكس بلدان تكون ذات آلاف الانتماءات الدينية كالهند.
2- وجود عامل لغة مشتركة ودور حياتي مهم، واللغة عامل مهم جدا.
ب- تاريخي:
1- تاريخ ما نسميه "الوطن العربية" يكاد يكون واحدا لأنه خضع لحكم مركزي واحد لقرون عدة، وخضع لنظام وثقافة حاكمة لمدة 1400 سنة، وخضع لانتشار العرب في هذه الرقعة (أي جلّها) منذ آلاف السنين. أي هناك خصوصية تاريخية للمنطقة.
2- انتقال الأسر العربية والقبائل العربية المستمر (حتى القرن التاسع عشر) بين شرق الوطن العربي ومغربه، مما أدى إلى نوع من الوحدة السكانيّة.
ت- اقتصادي:
1- بعد دراسات عدّة، أثبتت أن الدول العظمى الحديثة تحتاج لعوامل اقتصادية هامة لكي تنمو وتزدهر على باقي الأصعدة كالعلمية والحضارية، ومن هذه العوامل الاقتصادية هي:
- السوق الداخلية الكبرى:
وهذا ما يمثله الوطن العربي (ويعتبر أساس الاقتصاد الأمريكي) بنسماته الثلاثمائة وثماني وثلاثين مليون مستهلك. ولن توجد هذه السوق إلا عبر الوحدة العربية.
- المساحة الجغرافية الواسعة وتنوع الثروات الباطنية:
لقد أثبت أن أي دولة عظمى تحتاج لرصيد كبير من الثروات الباطنية المتنوعة (حديد، فولاذ، بوكسيت، نحاس، ذهب، نفط، ألماس، فضة، كروم، غاز طبيعي) التي يجب أن تؤمن لها اكتفاءً ذاتيا أو توازنا اقتصاديا يدعم الثورة الصناعية التي يجب أن تطرأ في البلاد، وهذا لن يتحقق بأي قطر عربي (حتى لو اتحد مع أوروبا) بل سيتحقق بالوحدة العربية، لأن لكل قطر عربي مميزاته الخاصة التي تهم باقي الأقطار.
- الثروة النهرية:
يمتلك الوطن العربي أنهارا كبرى كالفرات ودجلة والنيل وأنهارا صغرى كالعاصي والليطاني وغيرها، وأغلب هذه الأنهار مقسمة بين الأقطار العربية مما يحد من فعاليتها بفضل السدود وانتفاء التفاهم العربي بشأن الري، وبالوحدة العربية يمكن إنشاء نظام ري متميز يحول الوطن العربي لمنتج كبير للزراعة، لما لأراضيه من تنوع وخصوبة.
- الثروة البحرية:
يمتلك الوطن العربي سواحلَ على كلٍ من الخليج العربي، بحر العرب، البحر الأحمر (بل نملكه كله)، البحر الأبيض المتوسط، المحيط الأطلسي. الأحمر الذي يعني وجود ثروة سياحية وسمكية هائلتين، وكذلك ضمان الإرث الكبير من الآبار النفطية البحرية المحتملة.
كما أن الوطن العربي يتميز بسيطرته على الكثير من المضائق البحرية المهمة كمضيق "باب المندب" في اليمن، ومضيق "هرمز" في عُمان، ومضيق "جبل طارق" بالمغرب، وقناة السويس التي تعتبر ثاني أهم مضيق بالعالم بعد مضيق بنما.
ث- سياسي:
1- بوحدة الوطن العربي سيؤمن هذا تأسيس جيش نظامي هائل قد يصل لـ 15 مليون جندي وجنديّة وعدد ممتاز من الطائرات والأسلحة الحديثة.
2- يكون للوطن العربي ثقل سياسي كبير يحمي العرب وثقافتهم من الأطماع الدولية المستمرة، المتمثلة بإيران أو الولايات المتحدة أو الصين أو أوروبا. فمنطقتنا غنية، ولا حل إلا بوحدة عربية توازن القوى بيننا وبين الطامعين.
3- الوحدة عامل سياسي وعسكري مهم بشأن القضية العربية الفلسطينية التي يمكن أن تحلها بشكل تام.
4- زوال الخلافات العرقية التي تقوم مع بعض الأقليات، لأنها سترغب يومها بالبقاء مع الدولة العربية العظمى مع ضمان حق "الاتحادية" (الفيدرالية) لها.
هذه العوامل، بالإضافة للزخم الحضاري وللدخل السياحي الكبير سبب لقوة الدولة حتى ولو فرضت نظام ضرائبي بسيط، مما يمكنها من رعاية البرامج المدنية والحضارية. أعتقد أنها أسباب كافية حقا للعرب كي يتوحدوا، ويصنعوا هيكل ومسببات الدولة العربية الواحدة، بغض النظر عن وجود أحزاب قومية أو لا، لأن الدستور سيتكفل بمهمة الحفاظ على قومية الدولة وتماسكها وكذلك موازنته مع الانتماء الديني.
نريد دولة عربية اتحادية (فيدرالية) وفق النموذج الأمريكي مع ضوابط وحدوية أكبر (وحدة المناهج والقانون مثلا) أما معضلة الإسلام فهي تهويمات وتضليل لا حقيقة لها، وقد أوجدت بواسطة المدارس; الأصولية الإسلامية وقادتها المدرسة السلفية التي حولت الإسلام لضرورة شرطيّة لقيام أي دولة في العالم العربي، علما أن الإسلام هو اختيار شخصي وانتماء ثقافي، وأن من مصلحته أن تكون له حظوة دستورية وحماية قانونية بدلا من أن يتحول القانون كله ويتحمل الأخطاء الفردية للساسة والمسئولين. يجب أن نرسي مفهوم "العلمانية المحافظة" وهي العلمانية التي لا تقمع الدين ولا تسمح بصعود أحزاب سياسية ذات طابع ديني أو طائفي بحت.
لا غنى للعرب عن الوحدة، لأن التجربة تثبت يوميا أنهم مستهدفون ومن كل أمم الأرض. ولا عجب، فمن يملك 70% من النفط والغاز الطبيعي في العالم لا بد وأن يكون مستهدفا.
لهذا، أنا قومي.
*اقرأ أيضاً:
بفلسفة المقاومة/ رأي بشأن حلاقة الشوارب/ تساؤلات من مسلمات مقهورات (2)