منذ فترة أذاع التليفزيون فيلماً أجنبياً مثيراً للتأمل......
كان الفيلم يحكي عن طائرة بريد سقطت في المحيط...... ولم ينج منها إلا بطل الفيلم: ألقت به الأمواج على جزيرة مهجورة تماماً..... لا إنسان ولا حيوان ولا أي شيء..... فقط سماء وبحر وأشجار جوز الهند...... وكما ألقت الأمواج به على شاطئ الجزيرة.... ألقت أيضاً ببعض من الأمتعة التي كانت على الطائرة المنكوبة: الطرود البريدية التي كان عليه توصيلها من بلد إلى بلد.... طرود تحمل أشواق الأهل والأصدقاء وتلك الهدايا الصغيرة التي تهمس لمن نحبهم بأنهم دائماً على البال رغم المسافات.....
فتح الطرود.. وجد فيها أشياء بسيطة.. مطواة كالتي يستخدمها أفراد الكشافة.. شريط فيديو... كرة أرسلها جد لحفيده.. وهكذا....
كان على البطل أن يكافح من أجل أن يعيش: غريزة حب البقاء دفعته لتسلق الأشجار والتهام ثمار جوز الهند...... بعد ان شبع وإرتوى ألحت عليه غريزة البحث عن مأوى: قطّع الأغصان وربطها سوياً بشريط الفيديو فصار له كوخ صغير يقيه من الشمس ومن المطر.....
بدا له كما لو أن أساسيات الحياة قد توافرت له: الغذاء والمأوى والأمل في أن تمر يوماً سفينة أو طائرة استطلاع فتلتقطه..... مع توالي الأيام بدأ الملل يتسرب إليه: كانت هناك غريزة أخرى أساسية ينمو الاحتياج إليها ويتنامى يوماً بعد يوم: غريزة التواصل الإنساني مع صديق.....
نتوقف هنا للحظة....
الإنسان بغريزته كائن اجتماعي.... يحتاج إلى التواصل مع الآخرين: يؤثر فيهم ويتأثر بهم.... ومن هؤلاء المحيطين به يحتاج إلى صديق..... يتحدث إليه.... وينصت له.... ويشعره بأنه ليس وحيداً......
في أغنيتها الجميلة "قديش كان فيه ناس" تحكي فيروز عن صبية جالسة في دكانها ترقب تلاقي المحبين عند ناصية الشارع –حتى والدنيا ممطرة – بينما هي وحيدة جداً لا يواعدها أحد –حتى في أيام الجو الصحو.... وتمني نفسها باليوم الذي يكون لها فيه –هي أيضا- محبون يهتمون بأمرها..... وإلى أن يأتي هذا اليوم.... هذا اليوم الجميل..... ماذا تفعل؟
صار لي شي ميت سنة
عم ألف عناوين
مش معروف لمين
واحكيلن أخبار...!
إلى هذه الدرجة الصديق ضروري؟
نعود لحكاية الفيلم.....
ذات يوم بينما كان البطل يقطّع ثمار جوز الهند أصابه حد السكين في كف يده..... بحث عن شيء يمسح فيه يده النازفة فلم يجد إلا الكرة.....
حين جف الدم على الكرة.... بدا كف يده المرتسم مع استدارة الكرة شبيها بوجه إنسان.... تأمله مبتسماً:
- حسناً..... فليكن اسمك "تومي".... (كان تومي هذا هو اسم نوع الكرة).....
صار تومي هذا هو رفيقه و نديمه وسميره..... يحكي له عن خطيبته التي خلفها وراءه في بلاده..... أتراها يا تومي ظنت أني بالفعل قد مت في حادث الطائرة.... وما ظنك أنها فعلت في حياتها من بعدي؟..... أما زالت تذكرني أم تراها انشغلت بشخص جديد..... وما رأيك يا تومي.... هل نظل منتظرين على الجزيرة أم نشرع في بناء قارب صغير يبحر بنا إلى المجهول....
وفي المساء لا يأوي إلى كوخه قبل أن يعد لتومي هذا فراشاً وثيراً من أوراق الشجر..........
كم مضى عليه في هذا الحال؟.... سنوات....
وذات يوم يستبد به اليأس فينقلب ثائراً على كل شيء... على تلك السفن التي لا تمر.... وعلى تلك الطائرات التي إن مرت لا تنتبه إليه... وعلى جوز الهند هذا الذي صار بلا طعم.... وعلى حياته البائسة تلك.. العبثية إلى درجة أنه لا يجد شيئاً يفعله سوى الحديث مع كرة صماء من الجلد.....
– حتى شكلك غبي......!
قالها لتومي –الكرة– وهو يقذف به بعيداً من فرط الغضب والثورة....
والثورة مثل موج البحر: تعلو وتهبط......
وحين هبطت.... كان كالمجنون يبحث في أنحاء الجزيرة عن تومي أين ذهب..... كان ينتحب وهو يعتذر لتومي –الكرة- عما فعله... كان يعد تومي –أكرر: الكرة– بأنه أبداً لن يكرر ثانية ما فعله...... و...
- حقك عليّ...... بس تعال......
وحين وجده أخيراً بين الأحراش..... ارتمى عليه وكأنه أم قد عثرت على وليدها.......
الصديق المخلص ضرورة..... الدنيا بدونه تفقد الكثير من أمانها.....
واقرأ أيضاً:
صراع في الدماغ: الحيل الدفاعية/ الحيل الدفاعية (6/6)/ بطوط