في منتصف إحدى الليالي، وصل درويشٌ الى محل تجمّعت فيه مجموعة من الدراويش الفقراء. فدخل عليهم ليرتاح الليل ويكمل سفره في الغد وسلم حماره للحارس كي يعتني به. وحين علم الدراويش بوجود الحمار، وقد مضى عليهم فترة طويله يعانون من الجوع والفقر، اجازوا لأنفسهم ذبحه وطبخه من دون علم صاحبه. فصنعوا مأدبةً واجتمعوا حولها مع ضيفهم وبعد الانتهاء اقاموا مجلسهم الخاص وكانوا يرددون ضمن حلقتهم ذهب الحمار... ذهب الحمار. والضيف يردد معهم بشغف ونشوة. في الصباح حين اراد الرحيل لم يجد حماره، استفسر من الحارس، فقال له القصة، وأضاف «جئت لأنبهك على ما جرى، لكنني رأيتك تردد معهم بشغف، ذهب الحمار، فظننت أنك تعلم بالأمر وراضٍ به». (من قصص المثنوي لجلال الدين الرومي).
التبادل الثقافي بين الشعوب أمرٌ لا بد منه، وهو من مقومات الحضارة والتقدم والتطور على مر القرون. لكن كما أن للكلمة الواحدة دلائل مختلفة من ثقافة إلى أخرى، وحتى من منزل لآخر، كذلك الحال بالنسبة إلى المفاهيم إضافة الى تعقيدات وشروط أخرى.
فما يحصل حالياً في مجتمعاتنا، من استيراد مفاهيم نفسية وتسويقها في الكتب التجارية والدورات التي يقدمها غير المختصين في علم النفس، سبب مشاكل عديدة، سلوكية ونفسية وزوجية وتربوية وارتباطية. وسبب للكثير من اللبس والتناقض مع المفاهيم الاخلاقية، وبالتالي نتج عنه التخبط في التعاملات الاجتماعية وحتى التعامل مع الذات.
والمفاهيم المستوردة، مثل:
- التلقائية وضديتها مع المجاملة الاجتماعية.
- كن كما تود ان تكون ولا تهتم برأي الاخرين.
- احبب ذاتك.
- ذاتك أولاً.
- اظهر مشاعرك فالمشاعر ليست للكبت.
- انت لا تحتاج الى الاخرين ليسعدوك.
- لا يحق لشخص ان يحد من حرياتك.
وغيرها العديد من المفاهيم التي تنتشر في المجتمع كانتشار الجراد. والمشكلة ليس انها مستوردة، فكما قلنا في البداية، التبادل الثقافي ضرورة لا بد منه، لكن المشكلة تكمن في نقاط عدة، اهمها نقطتان:
- الأولى، أننا نستورد المفاهيم من دون الانتباه الى مقدماتها وشروطها وتناسبها مع كل بيئة وكل مجتمع. تماماً كاستقطاع جملة أو آية من منتصفها، وكأننا نقول:«ولا تقربوا الصلاة»، نأخذ هذه العبارة من منتصف الاية ونطبقها. فالحاصل يكون عكس الأمر الإلهي تماماً. ولذلك نرى مفاهيم تسبب تطور مجتمع وفي الوقت نفسه، تسبب تأخرنا. أو أنها تسبب للآخرين كوارث، ونحن نطبقها من دون علمنا بالكوارث التي سببتها.
- والثانية أن المفاهيم النفسية المستوردة التي تنتشر في المجتمع بسرعة النور، هي غالباً المفاهيم التجارية، بينما المفاهيم العلمية لا تلقى ذلك الانتشار. مثلاً، كيفية التعامل التجاري مع المشاعر، وشعار مثل لا تكبت مشاعرك واياك والنفاق الاجتماعي والى اخره من العبارات الجميلة تتناقض مع مفهوم الذكاء الوجداني او العاطفي، لكن لان الأولى أسهل تطبيقا ويتقبلها الناس بقبول حسن، نرى للأسف المدربين غير المختصين يروجون لها وينشرونها بين الناس وهم يقبلون عليها لانها في النظرة الاولى تسهل عليهم حياتهم، لكنهم لايدركون انها في المدى البعيد تسبب لهم العديد من المشاكل السلوكية والارتباطية التي ربما تؤدي الى اضطرابات نفسية.
إذاً التعامل مع المفاهيم المستوردة، يجب أن يكون بحذر وبعد الاطلاع التام على كل جوانبها ودراسة مدى تلاؤمها مع البيئة والثقافة والمجتمع، ومدى توافقها مع العلم ومدى تأييد العلم لها. وفقط بعد ذلك، يمكن تعليمها للناس وتدريبهم عليها، بحذر كبير.
واقرأ أيضاً:
وباء النرجسية / ازدواجية العواطف / سيكولوجية العتاب.. دليل على الحب أم ... ؟ّ! / لماذا طفلي هكذا وليس كذلك؟ / توقف عن عمل الخير !! / قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟!