قتل رجلٌ من بني إسرائيل أحد أقربائه ثم رمى بجثمانه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه، فأنكروا ذلك وقالوا نحن بريئون من هذه التهمة وحصل خصامٌ بينهم، فقال لهم أحد شيوخهم هل تختصمون وبينكم رسول الله؟ نذهب إليه ليحكم بيننا (رواه الطبري ح1172). ذهبوا إلى نبي الله موسى عليه السلام وأخبروه بالقصة فقال لهم سوف أخبركم بذلك ما أن يوحي إلي الله بالجواب، ثم جاء إليهم وقال لهم: "إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" كي تعلموا من القاتل، فاستنكروا عليه ذلك و"قالوا أتتخذنا هزوا" أي نحن جئنا إليك بمشكلتنا وأنت تستهزئ بنا؟ فقال لهم موسى عليه السلام: "أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" أي إن الاستهزاء هو فعل من لا يعلم هو فعل الجاهل وأنا عالم وما أقوله لكم هو عن علم ومعرفة...
ما حدث في هذه القصة يتكرر يومياً في حياتنا وكل متخصص في مجاله يواجه هذه العبارة بألفاظ مختلفة: "أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا"!!. مثلاً حين يقول الطبيب بأنَّ من الأفضل أن لا يتناول الرضيع شيئاً غير حليب الأم لمدة أربعة أشهر هناك من يعترض ويقول نحن كنا نطعم أبناءنا منذ ولادتهم خبزاً وزيتونا!! وطبعاً لا يقول كم من الأطفال كانوا يموتون في صغرهم دون أن يعلموا السبب!! وحين يقول المتخصص النفسي بأنّ تشبث الطفل بأمه مؤشر على عدم شعوره بالأمان ترتفع الصيحات بأنه كيف يمكن هذا وأنا أغدق الحنان على طفلي وهو متشبث بي ولا يسأل بدل هذه الضجة ماذا تقصدون من الشعور بالأمان؟!!
وأما عالم الدين حين يفتي بما لا تهوى أنفسهم فإنهم يتخذوه سِخْرِيًّا!!
ما هو تفسير علم النفس لاعتراض بني إسرائيل وما يشابهه؟
عالم النفس التطوري الرائد جان بياجيه هو أول شخص أجرى دراسات تجريبية مكثفة على عمليات تفكير مرحلة الطفولة، وذلك في عشرينيات القرن العشرين، وحسب نظريته فإنّ النمو المعرفي للإنسان هو نتيجة طبيعية لتفاعل الفرد مع البيئة التي يعيش فيها الطفل إذ لا يتعلم من خلال هذه الخبرات المباشرة الناجمة عنه فحسب بل إنه يتعلم كيفية التفاعل مع هذه البيئة أيضا وفي عملية التفاعل هذه يلعب عامل العمر دورا هاما من خلال تأثره بعاملين آخرين في غاية الأهمية هما النضج والخبرة. (القيسي:2008:218 ) .
كما اكتشف بياجيه بأنَّ عملية فهم الإنسان وإدراكه لبيئته تتم عبر عمليتين:
- التمثيل أو الاستيعاب Assimilation
العملية الأولى التي يقوم بها الطفل لفهم وإدراك محيطه وبيئته هي التمثيل أو الاستيعاب وبناء على هذه العملية يدرك العالم من حوله ويعطي التسميات ويصدر الأحكام. فالطفل يبني في منظومته العقلية أبنية معرفية Structures أو مخططات Schemas ويعطي لكل مخطط اسما معينا وتمثل المخططات رموزا codes أو شفرات يفسر عن طريقها العالم. في عملية التمثيل هو يحاول استيعاب المعلومة الجديدة حسب الشفرات الموجودة في مخه فيعطي مسميات واحدة لأمور متشابهة. فمثلاً حين يرى الطفل شيئاً دائرياً يلعب الأطفال به لا يعلم في البداية ماذا يسميها، لكن حين تقول الأم هذه كرة فهو يبني في مخه شفرة أو مخطط للكرة وثم يسمي الأشياء التي تشابهها كرة. طبعاً هذا مثال بسيط لكنه بنفس الطريقة يفسر الأمور والأحداث الأخرى أيضاً، فإذا كان في بيئة عنصرية يكره أبواه ذوي البشرة السوداء وكلما أرادوا تخويفه قالوا له الرجل الأسود سوف يأكلك فإنه كلما يرى شخصاً أسود يختبيء خلف أمه ويخشى أن يأكله!.
وهكذا يمكن النظر إلى التمثيل على أنه عملية معرفية لوضع أحداث أو مثيرات جديدة في مخططات موجودة فعلاً. ولا يؤدي التمثيل نظرياً إلى ارتقاء-تغير- المخططات، ولكنه يؤثر فيها، ويمكن للفرد أن يشبه المخطط بالبالون، والتمثيل بعملية إضافة هواء أكثر إلى البالون، فالبالون يكبر- نمو التمثيل - لكنه لا يغير شكله - الارتقاء -، فالتمثيل جزء من عملية يتكيف بها الفرد معرفياً، وينظم بها بيئته، إن عملية التمثيل تسمح بنمو المخططات وهذا لا يعني تغير أو ارتقاء المخططات. الواضح أنه إذا كان التمثيل العملية المعرفية الوحيدة فلن يكون هناك نمو عقلي أو معرفي، حيث أن الطفل سوف يعتمد في تمثيل خبراته على الإطار المحدد لما هو ماثل في بيئته المعرفية ولذا نلجأ إلى العملية الثانية وهي المواءمة (الرافعي2001: :11)
- المواءمة Accommodation
هناك خبرات جديدة لم يمر الفرد بتمثيل لها من قبل ومن ثم فإن الأبنية العقلية الحالية لابد أن تغير من نفسها لكي يمكن تقبل هذه الخبرات الجديدة. وهذه العملية هي عملية المواءمة أو الملاءمة. ملاءمة أو مواءمة الأبنية العقلية للخبرات الجديدة، وإذا كانت عملية التمثيل وظيفتها المحافظة على الوضع الراهن للبنية العقلية عن طريق تفسير المواقف الجديدة غير المألوفة في ضوء المعارف القديمة، فإن عملية المواءمة تعني تعديلا في بنية العقل ومعارفه عن العالم حيث يمكنه أن يستوعب الخبرات الجديدة.
ويقول بياجيه في ذلك: ليس ثمة شك في أن الحياة العقلية عملية مواءمة أو ملاءمة مع البيئة، فالتمثيل لا يمكن أن يكون نقيا، لأن الذكاء عن طريق استيعاب عناصر جديدة في الصورة العامة السابقة يعدل من هذه الصور لكي تكيف نفسها مع العناصر الجديدة وبمعنى آخر فالمواءمة هي عملية خلق المخططات الجديدة، أو تحوير المخططات القديمة، وينجم عن كلا العمليتين تغير وارتقاء في البنى المعرفية أو المخططات. وتعبر المواءمة عن الارتقاء أو التغير النوعي، ويعبر التمثيل عن النمو أو التغير الكمي، وكلاهما يعبر عن تكيف فكري، وعن ارتقاء البنى الفكرية. (الأزيرجاوي:1991:320) هاتان العمليتان معا التمثيل- والمواءمة تحدثان تكيف العقل مع البنية في الوقت المعين أثناء عملية النمو، وبواستطها يتم تعديل البنية العقلية بشكل مستمر لتصبح أكثر فأكثر تعقيدا، وهو ما يشكل جوهر النمو العقلي أو المعرفي عند الإنسان (الحمداني:2013).
تطبيق نظرية بياجيه على بقرة بني إسرائيل
ما نستفيد من نظرية بياجيه لتفسير ظاهرة الاستنكار المذكورة في سورة البقرة هو أن الإنسان الذي لا ينمو معرفياً (من الناحية التجريدية) فإنه يفسر الأمور حسب البنى المعرفية او المخططات المعرفية الموجودة لديه والذي ورثها من أبويه وأبواه من آبائهم فكل ما يسمع بأمر جديد يرى أنه لا يجد لهذا الأمر شفرة يفسره بها حسب بنائه المعرفي الضيق. ولذلك يكثر الإنكار والاستنكار من الجهال ومن هم على قدر ضئيل من المعرفة حتى أنهم لا يفكرون بالقائل سواء كان نبياً أو عالماً أو طبيباً أو ... . فحين قال موسى عليه السلام اذبحوا بقرة كي تجدوا جواب سؤالكم، راجعوا بنيتهم المعرفية فلم يجدوا فيها أي بقرة جاوبت على سؤال كهذا إذاً موسى يستهزيء بنا!! إلاّ إذا... كانت البقرة مميزة (التفكير السحري)!
التفكير السحري:
درس العديد من علماء النفس موضوع التفكير السحري لدى الإنسان عموماً ولدى الأطفال خصوصاً وكان بياجيه أول من درس هذه الظاهرة بصورة تجريبية واستنتج إلى أن الأطفال في المرحلة الثانية من النمو المعرفي (من السنة الثانية إلى السنة السابعة) يفسرون الأحداث بطريقة سحرية أي غير منطقية وغير عقلانية ويصدقون التفسيرات السحرية. وقد استنتج بياجيه أن التفكير السحري نابع من عدم قدرة الأطفال على التمييز بين ما هو عقلي وما هو مادي. ولكن حسب دراسات فرويد في الأساطير المنتشرة ودراسته للأقوام البدائية رأى أن التفكير السحري يستمر مع الإنسان الذي لم يتطور معرفياً مدى الحياة.
لذلك حين رأى بني إسرائيل بأن موضوع البقرة ليس استهزاءاً بل هو أمر حقيقي من الله قالوا إذاً لابد أن تكون بقرة سحرية فلا يمكن لبقرة عادية أن تفعل هذا الأمر فقالوا "ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ" رغم أنّ موسى قال لهم اذبحوا بقرة يعني أي بقرة تجدونها، لكن الله تعالى يعلم بمستوى إدراك البشر وماذا يريدون من وراء سؤالهم فأوحى إلى موسى أن يقول لهم: "إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ" لكن هذه مواصفات منتشرة بين البقر فهم يبحثون عن شيء مميز لذلك يقولون: "قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا"
فيأتي الجواب: "قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69)". لا ينفع فالبقرة السحرية واحدة لا أكثر يعودون مرة أخرى ويسألون: "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)" هذه المرة يعطيهم الله مواصفات ترضي إدراكهم ولا تنطبق إلا على بقرة واحدة فيقول لهم موسي (ع) : "قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا" هنا تنفسوا الصعداء واطمئنوا إلى أن موسى لا يستهزيء بهم وفعلاً يدلهم على بقرة سحرية لذلك يقولون: "الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ"!!! ما هو الحق برأيهم؟!! الحق هو البقرة السحرية!! وهكذا يرى الحق من لا ينمو معرفياً.
وهذا يفسر لنا لماذا الجهلاء لا يسمعون كلام العالم ولكن يسمعون كلام الساحر الذي يبين لهم الأمور بطريقة سحرية لا تتناسب مع القواعد الطبيعية أو العقلانية. وكلا الحالتين (التمسك بالتمثيل والاستيعاب دون المواءمة والتفكير السحري) من صفات الطفولة المبكرة لكن إذا لم ينمو الشخص من الناحية المعرفية أو القدرات المعرفية فإنه سوف يستمر على هذا النمط الطفولي وإذا كان أكثر الناس في مجتمع ما على هذه الطريقة فهو منبيء ومؤشر على عدم النمو المعرفي للمجتمع عموماً.
المصادر:
- القرآن الكريم
- الحمداني، رابعة.(2011) نظرية بياجيه في النمو المعرفي. http://www.acofps.com/vb/showthread.php?t=9224
- الرافعي, يحي بن عبد الله بن يحي (2001) أثر بعض المقررات المقدمة للطلاب الجدد بكلية المعلمين بالدمام في نمو مرحلة التفكير التجريدي وفق نظرية بياجيه. رسالة ماجستير, منشورة كلية التربية, جامعة أم القرى مكة المكرمة. شبكة الإنترنيت
- الأزيرجاوي, فاضل محسن .(1991) أسس علم النفس التربوي. دار الكتب للطباعة والنشر . الموصل .
- الطبري، محمد بن جرير. تفسير الطبري. دار المعارف http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=230&idto=230&bk_no=50&ID=235
واقرأ أيضاً:
وباء النرجسية / ازدواجية العواطف / سيكولوجية العتاب.. دليل على الحب أم ... ؟ّ! / لماذا طفلي هكذا وليس كذلك؟ / توقف عن عمل الخير !!