يقول ميشيل فوكو: "أستقي العلم من التجربة الفردية".
المريض هو المعلم إذن وعلى الطبيب النفسي أن يداوي بتفصيل الدواء والحياكة، وأن يتعلم من كل مريض على حدة، فالتجارب الشخصية كما المقاسات تختلف بالتأكيد من شخص لآخر. هل نتفق حول هذه المقولة التي تنتصر للتمحيص في مقابل التجميع؟! وهل يتفق هذا الكلام مع النموذج الحيوي النفسي الاجتماعي الشهير Biopsychosocial Model أو مع ثلثيه لو جاز التعبير؟! يكاد يكون المعنى واحدا غير أني لا أرى الأمور تسير على هذا النحو.
في سبيل فك الاشتباك بين الطب النفسي وعلم النفس، سيتنكر الطب النفسي الحديث للتنظير أو سينظر إليه نظرة متشككة على أقل تقدير. كل قول لا يدخل المعمل ربما سيصير جملة مختبئة في مراجع الطب النفسي الكبرى ليس فقط لافتقاره للأدلة، بل لأن الجديد يجبّ الأقدم أيضا، والجديد يخاصم الفلسفة. هكذا نفهم كأطباء نفسيين الزمن، وننصت للتواريخ. تضايقنا التواريخ القديمة. نؤمن أن المرجعيات العلمية يمكن أن تبلى ببساطة، وما من شيء يستعظم على البلى.
المرجعيات القديمة تسمي المرض النفسي بالجنون. لا يوجد تشخيص طبنفسي يدعى الجنون. نقولها ونحن ندحض وصمة العار التي تكللنا، ويلصقها الجميع بنا وبمرضانا؛ لكن أنستطيع حقا أن نجزم أنه لا شيء يسمى بالجنون إذا لم نستطع أن نقول ما هو السواء؟ هذا اللفظ تحديدا (الجنون) والذي يستخدم استخداما محدودا في قاعات المحاكم الأمريكية على سبيل المثال يحيلني لفكرة وجوده الخفي المُتَعَامَى عنه، أو ظهوره جليا واضحا في أثناء الاتصال مع عالم الواقع أو الجريمة حتى لو كرهنا! كيف نمحوه من ذاكرة الزمن وننزعه من لسان الناس؟!
الطب النفسي علم ناشيء وليد عمره قرنان من الزمان تقريبا. ماذا يعني قرنان من الزمن بالنسبة للتاريخ أو الحضارة؟ سطران مثلا في كتاب التاريخ.. زرَّان في ثوب الحضارة الطويل، أو تقريبا لا شيء. هل ندرك كأطباء هذا ونحن نحمل على عاتقنا عبء المبادرة، وجهاد الاختلاف وارتباك الولادة وألم المخاض. هل نحتمل كل هذا القدر من اللايقين في مرحلة البناء؟!
الطب النفسي يسابق الزمن ويلهث ونحن المشتغلين به نلهث معه. ينفض عن ثوبه الأفكار القديمة ويود لو يتخلص من اللايقيني فيه مما يمس علم النفس النظري والفلسفة. يريد أن يدخل المختبر والمختبر فقط ويعلن عن نفسه واضحا وبقوة في عينات الدم وصور الرنين المغناطيسي، والأشعة المقطعية. يريد أن يتخلص وعلى وجه السرعة من أجمل ما فيه وهو الخيال. وفي أرض الخيال تكون "السمَّاعة" هي اللغة. سنهتدي بنبض اللغة وحساسيتنا المفترضة والخاصة تجاهها، سنجسّ تفكير المريض، وينفتح لنا ثقب صغير يضع فيه المرء إحدى عينيه ليرى، لعلنا نرى.
يود الطب النفسي لو يحيل الاكتئاب لعبث السيروتونين فقط، ويغضّ الطرف عن موقف الإنسان من هزائمه الشخصية والعامة، ومن حساسيته المشروعة تجاه إحباطاته المحتومة. يريد لو يسيطر على العقل بما هو قابل للقياس الدقيق فقط عبر طرائق البحث. يستنطق الجينات استنطاقا كيما تشي بالاضطرابات التي تسببها. يحاول قراءة خرائطها؛ لكنه ما زال خائب الرجاء يدور كثور معصوب العينين في ساقية بين خصائص تضمها أنظمة التشخيص "الوضعية"، وكله رجاء أن يأتي يوم يستند إلى رقم (أو معدل على أقصى تقدير) يأتي من المختبر، أو شذوذ يعلن عن نفسه في فيلم أشعة. لا يتخيل أحد كم يقضّ مضجعنا هذا الأمر، ويشعرنا بالخزي في مواجهة الزملاء من الجراحين! الجراحين الباترين القاطعين أبناء الوضوح ورؤية العين لا أبناء (الطرح) و(الطرح المضاد) و(المُوَاجدة)! كم يستأهلون الحسد! متى نخرج من العتمة إلى النور، ونصير مثلهم؟!
كثير من الأطباء يفهمون العلم على هذا النحو العملي العلمي واضح المعالم واثق الخُطَى المُعَزَّز بالأدلة.. والجاف! على النحو الذي هو أقرب إلى الجراحة والهندسة أو حتى السمكرة! السمكرة هي معالجة الحديد.. تقويم لاعوجاج أصابه يليه طلاء بالقصدير. يا له من مسار نمطي واضح، ويا لها من وصفة سهلة لا تنجح إلا في مملكة "العقاقير النفسية". لكن سرعان ما تكتشف أن العقار لا يقوم بالسمكرة على الوجه المطلوب، ولا يهندس مدن الروح، وحتى الجراحة لا تردّ الروح التي تهتكت. في كثير من الأحايين تصرخ حبة من العقار في وجهك قائلة: "أنا لا أكفي. ألا ترى؟!"، ويكون عليك أيها الفارس - في السباق المحموم للتفتيش في نوايا الجينات، ومتابعة ركض النواقل العصبية في مسارات المخ المختلفة - أن تترجل، وتغمض عينيك قليلا، وتستعين بالخيال لعله يجيبك.
لست ضد هذا الأمل الجامح الذي يراه البعض الحصان الأسود في هذا السباق؛ لكني ضد أن يختطف مني الخيال الذي لا يدخل المعمل ويستعصي على القياس. ضد عمليات التنميط والترقيم والتجميد (جعله جمادا) التي يقوم بها الأطباء دون أن يعوا لها، فيروا المريض رقما بين أرقام ويسقطوا عليه قلقهم الخاص المتعلق بالمهنة وحساسيتهم تجاه فكرة اللايقين. أحترم اللايقين ولذا سأجلس هادئة مرتدية معطف الخيال الأبيض، وأرصد ما يفعله ذلك "الأمل الجامح" في هذا العالم الكبير.
واقرأ أيضًا:
تعتعة نفسية: هذه المؤتمرات الرائعة (الملتبسة)/ تعتعة نفسية: العقاقير النفسية والأعراض الجانبية؟؟!!/ تعتعة نفسية: لا شكر على تسويق دواء جديد!!/ الطب النفسي الكيميائي