كل هذا الركام من الأدب والفن على مر العصور والثقافات يقول لنا أصحابه: "أنا لست سعيدا/ لست سعيدة". هذا في الحقيقة كل ما هنالك وهذا يشملني.
طبعا لا نكتب حصريا لنقول ما نحس ونعتقده، وإنما لاكتشاف أغوار داخلنا، لما يمكن أن نؤمن به ونترك له أنفسنا، لما نحب أن نكونه حتى أننا نكتب بمعانٍ عدة "ضد أفكارنا وطبيعتنا" أحياناً، ليس فقط لدفع السماء أبعد إلى نقطة لا نراها ولا فقط ليبقى شيء منا، بل أوقاتاً للصمود في وجه الملل والانهيار .. فقط لذلك.
جاستون باشلار يرى أن الفكرة الخيالية أو حلم اليقظة الكوني يفصلنا عن حلم اليقظة المتصل بمشروع ما. الأولى تضعنا في العالم وليس المجتمع، وعليه فهي "تمتلك قدراً من الثبات أو الهدوء.. تساعدنا على الهروب من الزمن .. إنها حالة ذهنية فالشِعر يمدنا بوثائق لفينومنولجيا (عِلْم الظواهر) الروح" وعليه فهو يرى "حلم اليقظة الشعري بمثابة حلم يقظة كوني يمنح الأنا لا أنا تنتمي إلى الأنا : لا أناي" التي تحرر الروح وتلمس وحدتنا.
تقول سارة عابدين في إحدى قصائد ديوانها الأول "على حافتين معاً" (دار الدار): "حتى الحرية تتقيد بمدار محتوم، أستسلم عكس المتوقع مني فتبكي اللعنة نادمة لأني لم أمنحها نشوة الانتصار المحموم "وبآخر قصائده تتطاوس" فلأكتب إذن ما لم يُكتَب من قبل بثمانية وعشرين حرفاً ".
المسافة بين المقولتين تحيل إلى ما قصده باشلار بين ما يضعنا في المجتمع وما يساعدنا على الهروب من الزمن، كما تتجلى في عنوان يُدشن لموقف برزخيّ "على حافتين معا" فكل مفردات عالمها الشعري من زوجية وأمومة هي مناطق مضادة لهوية صارت "مسخاً" كما تعبر الذات الشاعرة التي تعاين قدرها يومياً في تجليات الطقوس التي أودعت لها رموزاً / حقائق مثل الستارة ذات الورود الذهبية في قصيدة " أكتب" إذ تقول: "لم تكن هي اختياري / أكره تلك الستائر الموغلة في العادية"، لهذا ستطلب الذات الشاعرة من الله بعد دخولها الجنة العودة للدنيا لكن بلا محظورات على المتع المرة الثانية وهو تجلٍ لحالة إبيقوية متواشجة مع الغضب عبر ديوان "مضغوط" ذثيماتياً بحساسية أنثوية (ولو نقدية) هائلة فيما تعبر الذات الشاعرة بأحد النصوص عن كونها "عنصرية ضد الكتابة النسوية وضد نوال السعداوي".
ما بين حس كونكريتي بامتداح المحسوسات والاشمئزاز منها تُسِّرب عابدين توحشها وغثيانها الذي يصعب وصفه بالوجودية بينما تخايلنا من البدء بازدرائها للتفلسف.
الخشونة في الديوان ليست ـــ كما يبدو ــ بسبب اللغة ولا براديكالية رغبة الكاتبة في الصدم بكسر التابو الديني والاجتماعي.. ثمة احتكاك غير مريح (لمن؟ ربما لي) على مستوى شعري لذات شاعرة تريد أن تنسكب وربما تتعجل الخروج من أرحام حالات وأزمنة. هذه حالة تتواءم مع نوع النبر الاعترافي للديوان الأول لدى كثيرين، أفلتت منها قصائد مميزة مثل "ذكرى" و"احتراق" و"موت دماغي" و"متوالية لا فرار منها" التي مخزونها الشعري أعمق وأكثر انضباطاً من الناحية الفنية لكن كان العمل يحتاج تدقيقاً لغوياً أكبر بسبب صياغات جمل وورود بعض الأخطاء.
إن الرغبة في قول أشياء بكلام تصفه الشاعرة في النصوص بـ "التافه جداً" هي مُخادَعة لا نصدقها، وتضعنا أمام سؤال يزدوج مع درجة شغفها بكسر التابو: هل يكفي هذا لكتابة ما لم يُكتَب من قبل بالأبجدية العربية، وهل استثمرت عابدين الطاقة القصوى لمشاعرها وتصوراتها بما يفيض أو يقصُر عن الطاقة المحتمَلة لشعريتها؟ الدواوين القادمة قد تحمل الإجابة.
واقرأ أيضا:
نجيب محفوظ يعلمنا، القتل العبادة = ثقافة الحرب!!/ كيف استطاع نجيب محفوظ أن يحِب: كل هذا الحب؟!!/ تعتعة سياسية: دورية محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزة/ نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية