كلما تذكّرنا سقوط جدار برلين نتذكّر بناء جدار العار الإسرائيلي في فلسطين. هذان الجداران كانا من الأحداث البارزة في حقبة التاريخ الراهن: سقوط جدار الفصل الأيديولوجي عام 1989 في برلين قابله قيام جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية عام 2002. ولكن شتان ما بين هذين الجدارين. كانت برلين مدينة مقسومة على ذاتها رغماً عنها وجرّاء اتفاق دولي انتهت إليه الحرب الثانية وأقرّته الحرب الباردة بين المعسكرين السابقين، الشرقي والغربي.
أما فلسطين التي قطّع جدار العزل الإسرائيلي أوصالها وجدت نفسها مقسّمة قسراً إلى بقع ومناطق وزوايا وفق مشيئة المحتل وربما برضا حلفائه الدوليين. رسم جدار برلين حدوداً بين شطرَي المدينة الواحدة فأضحت مدينتين، أما جدار العار فقطّع الأراضي وفصل بين أهاليها، وبينهم وبين حاراتهم وبيوتهم وحقولهم وأشجارهم .. لم يرسمْ حدوداً بل اخترق الحدود لينشئ مناطق عزل عنصريّة، مستهجنة وغير إنسانية.
خمسة وعشرون عاماً على سقوط جدار برلين واثنا عشر عاماً على قيام جدار الاحتلال الإسرائيلي. كم علينا نحن العرب أن ننتظر لنحتفل بسقوط جدار العار هذا؟
زرت برلين قبل بضعة أعوام وقصدت نقطة العبور بين برلين الشرقية وبرلين الغربية وهي ما برحت تسمى «شيك بوينت شارلي» ثم اشتريت حجراً صغيراً من حجارة جدار برلين التي تباع في المحال السياحية بأسعار زهيدة. حجر صغير من بقايا جدار انقضّت عليه معاول المواطنين هدماً وتدميراً حتى أزالته عن الأرض. ولكن كان يجب انتظار أعوام ليزول الجدار من النفوس والذاكرة. الجدران لا تكون دوماً من حجارة. الجدران القائمة في القلوب والعقول والوجدان العام قد تكون أقسى من جدران الاسمنت. خطوط التماس التي عبرت المناطق اللبنانية خلال أعوام الحرب الأهلية أزالتها جرّافات السلم الأهليّ، لكنها لا تزال مرسومة في نفوس كثرة من اللبنانيين. الأسلاك الشائكة يجب إزالتها من الذات قبل إزالتها من الجغرافيا.
جدران وراء جدران، جدران داخل جدران .. النظام السوري يبني جدرانه، تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» يبنيان جدرانهما، وكلما سقطت بنوا سواها. جدران ليست من اسمنت ولا من حجارة، بل من قتل وحقد وكراهية وظلام ودم .. ما أخطر جدران الظلام عندما تجرف القلوبَ والعقولَ. الجدران اللامرئيّةُ أرهب من جدران الاسمنت. اختار جان بول سارتر «الجدار»عنواناً لقصّة شهيرةٍ له تدور وقائعها داخل سجنٍ خلال الثورة الجمهورية الإسبانية ضدّ الحكم الفاشي. لم يحضرِ الجدارُ في القصة إلا بصفته جداراً متوهماً لا مرئياً، رمزاً للخوف الداخلي والرهبة أمام القتل.
كُتب الكثير عن جدار برلين. قيام هذا الجدار شكّل حافزاً مهمّاً للكتابة، وسقوطه شكّل أيضاً حافزاً مهمّاً للكتابة في شتى أشكالها. قيامه كان حدثاً تاريخياً وسقوطه كان حدثَ القرن. جدار العزل الإسرائيلي كُتبَ عنه الكثير وسيُكتب الكثير عنه عندما يتهاوى في يومٍ ما، تحتَ معاولِ الفلسطينيين. قد يكون هذا حلماً صعبَ المنالِ، لكنه ضروريّ. وُجدتْ الجدرانُ لتسقطَ لا لتبقى. مهما طال بها الأمد، آيلةٌ هي للسقوط.
كتبَ مرّة الروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان، المعروفُ بصفته يسارياً ومعارضاً عن الجدارِ يقول: «أريد أن أبدأ الحياة. أريدُ أن تُفتح أبوابٌ في هذا الجدار». كان لا بد من شكر هذا الروائيّ، فهو دعا إلى فتح أبوابٍ في الجدار وليس كوى أو نوافذَ صغيرة كنوافذِ السجون. لم يدعُ إلى هدم الجدارِ، لم يجرُؤ. الأبواب في نظره تكفي. أما الجدار فليبقَ ما دام الشعبُ الفلسطينيّ يمارسُ «الإرهاب» دفاعاً عن أرضهِ وذاكرتهِ. ولعلَّ غروسمان يعلم جيداً ماذا تعني الأبوابُ في «قاموس» الجيش العبريِّ «التوراتيِّ»، وفي حياة الفلسطينيين الذين يمارسون فعل العبور في أراضيهم المحتلّة.
قبل ستة أعوامٍ على ما أذكر قام الكاتب المسرحيّ البريطانيّ دافيد هار بجولةٍ على مناطق جدار العزلِ وهدفُه كتابة نصٍ مسرحيٍ، لكنه عندما عادَ كتبَ ما يشبه الشهادة الأليمة والفاضحة، ناقلاً صورة مأساوية عن الحياة الفلسطينيةِ ما وراء الجدارِ وعلى تخومِه. كتبَ عن الألم الذي ساوره عندما شاهد مدينة القدسِ في واقعها الجغرافيّ والإنساني المأساوي. ومما قال: «كانت القدس جميلةً، أما الآنَ فلا. أعتقد شخصياً أن القدسَ ذُبحت».
قرأنا نصوصاً عربية وقصائد كثيرة عن الجدار الذي أنهك حياة الفلسطينيين وانتهك الأرض والمدن والأحياء والحقول .. وشاهدنا عن الجدار هذا أفلاماً سردية ووثائقية وصوراً بديعة. لكنّ الجدارَ ما زال جدارَ العارِ والفصلِ العنصريّ. وقد لا تليقُ به سوى المعاولِ تنقضُّ عليه لتهدمَه مثل جدار برلين. هذا حلمٌ، أكرّرُ .. ليكنْ.
واقرأ أيضا:
حروب إسرائيل الاستباقية!/ رحيل تشافيز.. في الفكر السياسي الإسرائيلي!/ صهيونية آيلة للسقوط.!/ إسرائيل تسوّق إنسانيتها!/ القوّة وحدها لا تُعيد الهدوء والاستقرار!!/ صحيفة أمريكية: 9 حقائق عن سقوط جدار برلين