جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام 1943 في موضوع الإنشاء ما يأتي:
"تقابل قطَّان: أحدُهما سَمين تبدو عليه آثار النعمة، والآخرُ نحيف يدل منظرهُ على سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حّدث كل منهما صاحبه عن معيشته"؟.
وقال تلميذ خبيث لأستاذه: أما أنا فأوجزت وأعجزت. قال أستاذه: أجدت وأحسنت، ولله أنت! وتالله لقد أصبت! فماذا كتبت؟ قال: كتبت هكذا:
يقول السَّمين: ناو، ناو، ناو... فيقول النحيف:نو، ناو نو... فيرد عليه السمين: نو، ناو، ناو... فيغضب النحيف، ويكشر عن أسنانه، ويحرك ذيله ويصيح: نو، نو، نو.. فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناو... فيثب عليه النحيف ويصطَرعان، وتختلط "النونوة" لا يمتاز صوت من صموت، ولا يبين معنى من معنى، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا بتعب شديد، بعد مراجعة قاموس القِطاط...!
قال الأستاذ: يا بني، بارك الله عليك! لقد أبدعت الفن إبداعا، فصنعت ما يصنع أكبر النوابغ، يظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه، وما ينطق القِط بلغتنا إلا معجزة لنبي، ولا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل إلا ما حكيت ووصفت، وهو مذهب الواقع، والواقع هو الجديد في الأدب؛ ولقد أرادوك تلميذا هِرا فكنت في إجابتك هِراُ أستاذاً، ووافقت السنانير وخالفت الناس، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي، فإن هذا الفن إنما هو في طريقة الموضوع الفنية، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك، ولو حفظوا حرمةَ الأدب ورَعَوا عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلاماً طويلا بارعاً في النادرة والتهكم، وغرابة العبقرية: وجمالها وصدقِها، وحسن تناولها، وإحكام تأديتها لما تؤدي؛ ولكن ما الفرق يا بني بين "ناو" بالمد، و"نو" بغير مد؟
قال التلميذ: هذا عند السنانير كالإشارات التلغرافية: شَرطة ونقطة وهكذا.
قال: يا بني، ولكن وزارة المعارف لا تُقِرُّ هذا ولا تعرفه، وإنما يكون المصححُ أستاذاً لا هراً... والامتحان كتابي لا شفوي.
قال الخبيث: وأنا لم أكن هِراً بل كنت إنساناً، ولكن الموضوع حديث قِطَّين، والحكم في مثل هذا لأهله القائمين به، لا المتكلّفين له، المتطفلين عليه؛ فإن هم خالفوني قلتُ لهم: اسألوا القطاط؛ أو لا فليأتوا بالقطِين: السمين والنحيف: فليجمعوا بينهما، وليُحرِّشوهما، ثم ليُحضروا الرقباء هذا الامتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه، وليصفوا منهما ما يَرونه، فوالذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصحّحين جميعاً، ما يزيد الهِّران على "نو، وناو"، ولا يكون القول بينهما إلا من هذا، ولا يقع إلا ما وصفتُ. وما بُدٌّ من المهارشة والمواثبة بما في طبيعة القويّ والضعيف، ثم فرارِ الضعيف مهزوماً، وينتهي الامتحانّ!
كتاب "وحي القلم"
واقرأ أيضاً:
القضايا الجدلية في العلاج النفسي/ هل يغير المرض النفسي شخصيتنا؟/ ثمن النجاح والتميز في الطب النفسي/ حقوق المريض النفسي بين الرعاية والوصاية