ما أغرب الحياة، وما أكثر ما يمكن أن نكتشفه بها، وما أكثر ما تخبئه من أجلنا....
فقط لأذكر فيما بعد متى ولماذا فكرت أن أدون أفكاري, أسجل الآن أنى لم أتمم عامي الرابع والعشرون بعد، وقد رأيت الكثير، كثيراً جداً، بالتأكيد هناك من رأوا أكثر منى بكثير.
ربما أنا مازلت في تلك المنطقة التي تسمح لي بأن أكتب عنها، وأن أنقل أفكاري للآخرين، فأنا لا أعلم إذا ما كنت سأكتب إذا كنت قد رأيت أكثر مما رأيت أم لا.. لا يهم، المهم أنى بدأت أن أفكر في أن اخرج ما بداخلي لمن حولي، أفكاراً جيدة ربما، أفكاراً سامة ربما، أفكاراً غريبة ربما، غير منطقية ربما... لا يهم، المهم أن تخرج، أن تُشرح، تُسجل، وربما تبقى للأبد.... ربما.
أؤمن بأن العقل يحوى الكثير والكثير مما لا أعرفه ولا أحد يعرفه، يقول العلماء أن العقل يحوى الكثير من الأسرار التي لم تُكتشف بعد، ويقولون أيضاً أن هناك أجزاء تشريحية من العقل لم يتم التوصل إلى وظائفها، وتصديقاً لمبدأ أن الله لم يخلق شيئاً غير ذي وظيفة فأنا أيضاً أعتقد ذلك، ربما فتحت بالفعل دهليزاً إلى واحداً من تلك الأماكن المجهولة، وهو مكان حسي جداً.. حسي للغاية.
أشعر بنفسي أحياناً شفافاً كالزجاج، كالماء، كالطيف، وكم من مرة نظرت إلى الشمس والسحب متعجباً، مأخوذاً، مدققاً، مسحوراً، وكم من مرة أفيق على صوت داخلي يسألني دائماً: لماذا؟... أنا لا أعلم ما هذا الصوت، هل أنا مريض نفسياً؟.. لا أعلم، لكنى أشعر بأني طبيعي، أكثر من طبيعي، من قل ما أمتلك من مزايا، وأقل بكثير من طبيعي في الوقت نفسه من كثرة ما أمتلك من عيوب، فأقول ربما أنا غريب لكنى غير مريض نفسياً.
أكثر ما شغل حياتي هو إحساسي بالأشياء والناس والمواقف، أفرطت فيه، هويته وتمرسته حتى صرت أشعر أكثر مما يجب، أكثر مما يمكنني أن أتحمل، وربما هذا هو السبب الذي جعلني أكتب الآن محاولاً إخراج الحمم التي بداخلي، التي أحفظها منذ دهور، أخذت صفة القرون من فرط ما أحسست بطولها، حمماً بركانية، أمطاراً غزيرة، سيول، كلها في صورة كلمات، جمل، أشياء عندما أنجح في إخراجها لمن حولي يشعرون بها وأشعر بهم.
فكرت في وقت ما أن امتهن الكتابة، فلدى الكثير والكثير لأكتب عنه، ولكنى أدرك أيضاً أنه ليس المهم أن أمتهنها، المهم أن أفهم، وأن أفكر بشكل أفضل عندما أكتب، وهذه ميزة أخرى، أرتب الحقائق، وغير الحقائق، أصنع قصصاً، أحيك وأغزل وأعيد وأعيد، ولا أعلم إذا ما كان هذا هو الصواب أم لا!!.. تلك الأثواب التي أصنعها، تلك العوالم التي أخلقها، ليس فقط لأعيش بها، ولكن لأجذب إليها من حولي، أجذبهم داخل قصصي، ثم لا أستطيع إخراجهم منها.
حدث هذا معي أكثر من مرة، وغالباً مع أشخاص أحبهم بإفراط، ليس غالباً, بل دائماً، أشعر بهم يحترقون داخل متاهات أضعهم بها، ربما يكونوا مستعدين لأن يتوهوا، يضيعوا، يفقدوا إحساسهم الحقيقي وتختلط لديهم الأمور... لا أعلم، ربما أكون ممتلكاً لشيء ما لا أدرى طبيعته، شيء غير ملموس ولكنه محسوس، أحسه عندما تنقلب الآية على أنا نفسي عندما تستحوذ على فكرة ما، قصة ما، فيلم ما، أغنية ما، أشعر بها تأكلني، تنمو داخلي، تعيشني وأعيشها.
أعتقدت أن ذاتي وراحتي في حب، علاقة من نوع ما، اختار دائماً علاقات غاية في التعقيد لمن حولي، غاية في البساطة بالنسبة لي، أعتقدت ذلك ولا أعلم إذا ما كنت محقاً أم لا ولكنى بدأت أؤمن أنى لا أكون أبداً متأكداً من هذا الإحساس وكأني لابد ألا أتأكد منه, هكذا أبقى أنا... وصرت أضحى بالكثير، أضحى بمن أحب في المقدمة، أضعهم في مواجهة مدافعي، صرخاتي، اندفاعي، جنوني، كما بدأت أؤمن أيضاً بأني غير سوى، لابد أني أحمل عقدة ما لا أعرفها أو لا أتذكرها، والغريب أنى غير متأذ من تلك الفكرة، بل أتقبلها بشكل ما وكأني أنا نفسي سقطت في واحداً من تلك الدهاليز التي يصمم عقلي على أن يصنعها... وهكذا، يوماً بعد آ خر، يزداد إيماني بأنه لابد أن أكمل حياتي وحدي، دون رفيق أعلم أنى سأخسره في وقت ما..... للأبد.
أنا غير متأكد حتى إذا كنت أحببت حباً حقيقياً، ولا أعلم ما ينبغي الحب أن يكون، كأني أتقبل الحب بطريقة ما تجعلني أتجاوب، أحب أنا الآخر، وأظل كذلك حتى تنغلق مجسات الحب لدى -ولا أغلقها بنفسي- لكنى عادة ما أصدم بمن أحبها، أصطدم بأفكارها، أرفضها ثم أرفض حبي لها أو حبها لي وبهذا انتهيت أكثر من خمس أو ست قصص حتى الآن، وهذا فعلاً كثير جداً، وفى كل مرة أعتقد أنها هي من خُلقت لي، كلهن كتبن لي أروع الأغاني ومعي حلمن، وكلهن لم يستطعن تحمل أفكاري وطريقتي... وكلهن تعذبن، لم تنج أياً منهن.
العبث الذي أصنعه بعقلي يأتي بنتائج تذهلني، كم من مرة حلمت أحلاماً تحققت.... لن أنسى ما حييت حلمي بوفاة جدتي قبل أن يحدث بأيام قليلة، العرس بدون عروس، والجميع يلبسون السواد، كما لن أنسى زيارتها لي في نفس المكان -في أحلامي- بعد أن حدث ما حدث، بينما أنا الوحيد الذي لم يجد أبداً غضاضة في أن ينام على سريرها، وفى تلك الليلة -أول ليلة لي من دونها، جاءتني وقالت لي أنها اجتازت امتحاناً شاقاً، رأيتها، أحسستها، وفرحت لها، ولم تأتى لي بعدها أبداً... ربما لأني أحببتها وشعرت بها وسكنت إليها.
أمي أيضا تمتلك أشياء مثل تلك، لكنها قليلاً ما تحكى، لكنها يوماً ما حكت لي أن جدتي -رحمها الله- جاءتها وقالت لها شيئاً صحيحاً يخصني، شيء صحيح، شيء لم أخبر أحداً به!!.. فما هذا؟.. ما تلك الدهاليز التي تتفتح لي؟.. وتصر أن تبقى مفتوحة، أحلام، رؤى، إفراط في الشعور بالناس والأشياء.
أتذكر يوم زارني أبى الذي تربطني به قوة لا أستطيع أنا نفسي تخيلها، زارني عند جدي عندما كنت أقيم عنده أيام دراستي، وبقي معي ليلة واحدة رفض فيها أن ينام معي على سريري كي لا يضايقني وقضى ليلته نائماً مستريحاً محباً على الكنبة معي بنفس الغرفة، ومضى في الصباح دون أن يوقظني، استيقظت لأجد أنه رحل، أخذت أتلمس الكنبة، أتشمم الغطاء وأبكى، شعرت بكل ما عاناه في حياته من أجلى.... بكيت، شعرت بالشمس تحرق جبينه في العمل وأنا مازلت بعد طفلاً صغيراً.. شعرت بكل حبة عرق سقطت عنه، شعرت كأنني هو فبكيت، وكم من مرة شعرت بأخي الأصغر -الذي أحبه جداً- عندما كنت أفعل شيئاً يضايقه، أشعر بغضبه، أشعر بحزنه، أشعر بعتاب عيناه كالسهام، أجري فأصالحه ولا يفهم لماذا، ولكنى أنظر له فيفهم, وكأني أنقل شيئاً ما لروحه لترضى، ويرضى.
لا أفهم ما تلك المجسات الموجودة بعقلي؟ وبدأت أتساءل، هل أنا وحدي كذلك؟ من يمتلك ذلك الإفراط في كل إحساس، هذا يقتل.. يستحوذ.. ينتشر ويتوغل، ولا أتحكم به، أحياناً أتفاجأ بنفسي في أوقات ما وكأني داخلي، كأني أريد أن أخرج منى.. أو على الأقل أريد أن أعرف ما الذي أتى بي إلى هذا الجسد؟ هل تلك روحي؟ أنظر ليدي.. أنظر حولي.. أتعجب.. من أنا؟ وماذا أفعل هنا؟ ولماذا أشعر بتلك الطريقة؟ لماذا أشعر وكأني عشت من قبل؟ انتمي لمكان آخر.
هل هذا دهليز آخر فتحته شارداً أو متعمداً وأنا أركز في رقعة الشطرنج أمامي؟ بينما من أمامي يود أن يدفع نصف عمره كي يعلم كيف أهزمه وأنا بهذا الشرود، يقول لي بعض الناس أن لي عينوناً ناطقة، تروى قصصاً وتخبر أسراراً، مفتوحة على الدوام.... مفضوحة على الدوام، عينان تلتهم ما تقعان عليه، وذات يوم قالت لي فتاة -لا يمكن أبداً أن يصدر منها هذا القول لأسباب كثيرة- "يخرب بيت عنيك!!" لمجرد أنى نظرت لها نظرة أخرجت شيء ما لا أعلمه، ويوم آخر بكت أخرى عندما نظرت لها فقط غاضباً وكأني وجهت لها كل إهانات الدنيا، هذا عن مواقفي القليلة فيما يخص عيناي اللتان أؤمن بأنهما أكثر جزء منى مربوط بعقلي، نافذته ومرآته، الجزء الآخر هو أذني، أذوب وسط الموسيقى بجميع أنواعها، لا أحبها كلها ولكنى أشعر بها كلها، بكل اللغات، بكل الأصناف والأشكال، تجعلني أبكى وسط أفراحي، تجعلني أحلم وسط يقظتي، تجعلني أفرح وسط أتعس أحزاني كأني أشعر بمن أبدعها، أسترجع حالته وقتما أبدعها، كيف أبدعها، كيف كان يشعر، كيف كان يريدها أن تكون، لماذا أراد أن يخرج ما بداخله.
أذوب في كل ما هو فن، موسيقى ولوحات، تنقلني إلى عوالم أخرى، وهى لعمري أكثر من ذلك وأكبر، إنها ليست مجرد اللوحات والموسيقى والشعر والإحساس بتلك الطريقة؛ إنها الأفكار، وكأن الأفكار كلها تنتمي إلى، فاللحن فكرة، واللوحة فكرة، والشعر فكرة، والحزن فكرة، والفرح..... فكل ما يحمل فكرة أشعر به يأخذني إلى دهاليزي، يُجلسني مع تلك الفكرة ومع غيرها.
والأفكار والأحاسيس باتا بالنسبة لي وجهان لنفس العملة، كلاهما له نفس المعنى عندي، والتفكير يعنى الإحساس، لا أستطيع أن أفكر في شيء لا أحسه، وفى الوقت ذاته لا يمكن أبداً أن أتجاهل فكرة أحسستها، لابد أن أجلس معها، أسمع منها، تروي لي، تخبرني وتسامرني وتؤنس وحدتي وتأنس بي وتبقى معي حتى أسأم منها، أو أتعرف على غيرها، وباتت الأفكار تعبث بعقلي كلما جلست فيه، تأتى وترحل دونما أن ترجع الأشياء إلى ما كانت عليه، لهذا دائماً أتغير.
دائماً أشعر بالاختلاف.... دائماً أتساءل، دائماً حزين، فمعظم الأفكار حزينة، كأن الحزن هو زعيم الأفكار كلها، أو هو أساساً سبب نشأتها، أعظم الأفكار جاءت سبباً للحزن أو سببته!!.. لهذا توصلت إلى أن أعظم فكرة هي الحزن، عدم التأكد من أي شيء.. فكل شيء يتغير، توصلت إلى الحزن وتوصل الحزن لي، صرنا أقرب صديقين، نختلف ونعود، أبتعد لأفرح قليلاً ثم إليه أعود لأظل أتفاجأ بما يمكننا الخوض فيه سوياً من متاهات ودهاليز، بما يمكننا اكتشافه، أنا وحزني رفيقي.
السبت 8 مارس2008
اقرأ أيضاً:
وخرجت حيرتي أشد مما دخلت/ كيف تكون شريفا في مجتمع فاسد؟