خواطر تاريخية حول الانقلاب الدستوري
(1) دستور 1930
12 ديسمبر 1935 يوم من الأيام المجيدة في تاريخ الحركة الوطنية المصرية وفي تاريخ نضال الشعب المصري من أجل الديمقراطية، وما أكثر هذه الأيام، في ذلك اليوم رضخ الملك فؤاد لمطالب الأمة التي عمدتها بدماء شهدائها من قادة الحركة الطلابية المصرية محمد عبد الحكم الجراحي وعبد المجيد مرسي وعلي طه عفيفي وعبد الحليم عبد المقصود شبكة ومعهم العامل إسماعيل محمد الخالع، لقد رضخ الملك لمطالب الأمة في عودة دستورها، دستور 1923 الذي كان ثمرة من الثمرات التي أتت بها ثورة 1919 العظيمة، والذي جاء في مذكرة وزير الحقانية (العدل الآن) التي أعلنت مع الدستور في 19 أبريل سنة 1923 ما نصه: "متى صدر الدستور الجديد فإن الحالة تتغير تغيرا تاما إذ إصدار الدستور والاعتراف بمبدأ كون الأمة هي مصدر جميع السلطات يجعلان سحب الدستور بعد منحه أمرا غير مستطاع".
لكن غير المستطاع صار مستطاعا، بتحالف الملك المستبد وحكومته غير الشرعية وبتواطؤ من سلطة الاحتلال البريطاني، بعد أن اعتبرت انجلترا أن التعدي على الدستور شأنا من شؤون مصر الداخلية لا علاقة لحكومة صاحب الجلالة به! فأعطت بذلك الضوء الأخضر للملك ورئيس وزرائه إسماعيل باشا صدقي للإطاحة بدستور الأمة وتعديل قوانين الانتخابات العامة والتعدي على الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين.
كان فؤاد قد ضاق منذ اللحظة الأولى بالدستور الذي قيد سلطاته، وأقر مبدأ رقابة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين على سلوك الحكومة وممارساتها، ومنح الشعب سلطة التشريع من خلال نوابه، وصان الحريات العامة للمواطنين وحافظ على حرمة حياتهم الخاصة، وأرسى مبدأ الفصل بين السلطات.
وخلال السنوات التي تلت صدور الدستور قاد فؤاد ثلاثة انقلابات دستورية، أولها في مارس 1925، عندما عطل الحياة النيابية لمدة عام وشهرين تقريبا، ثم عطلها مرة ثانية من يوليو 1928 إلى أكتوبر 1929، وفي المرتين كان لتضامن الحزبين الكبيرين الوفد والأحرار الدستوريين وقيادتهما للنضال الشعبي دورا أساسيا في عودة الحياة البرلمانية سريعا. إلا أن ثالث تلك الانقلابات الدستورية وأخرها في عهد فؤاد كان الأخطر والأطول والأشد تأثيرا.
وقد وقع ذلك الانقلاب الدستوري بعد أقل من عام من عودة الحياة البرلمانية في أكتوبر 1929، وكان النحاس باشا قد شكل الوزارة في الأول من يناير سنة 1930، ودخلت الحكومة في مفاوضات فاشلة مع الإنجليز حيث رفض النحاس باشا تقديم تنازلات لهم في تلك المفاوضات، الأمر الذي أثار غضبهم ودفعهم إلى تأييد الملك في انقلابه الدستوري الجديد، أما الملك فقد كانت دوافعه للإطاحة بالنحاس وبالدستور عديدة، فقد بدأت الحكومة عملها بإحالة 8 من كبار الموظفين إلى التقاعد لمشاركتهم في الانقلاب الدستوري، واضطهادهم للشعب وإهدارهم لحقوق المواطنين وحرياتهم، كما وضعت الوزارة مشروع قانون محكمة النقض والإبرام في صيغته النهائية وعطله الملك بدعوى أن الوقت ليس مناسبا له بعد، ومشروع قانون بنك التسليف الزراعي الذي أثار على الحكومة نقمة الدوائر المالية الأجنبية والمرابين الأجانب والمتمصرين لأنه كان سيحد من استغلالهم للفلاحين.
لكن الصدام الأكبر مع الملك جاء لسببين الأول تدخله في اختيار أعضاء مجلس الشيوخ المعينين ضاربا عرض الحائط بأحكام الدستور التي كانت تعطي للحكومة حق ترشيح الأسماء وللملك حق إصدار القرار فقط، وكان هذا الأمر مسار نزاع دائما بين السرايا والحكومة خاصة في ظل حكومات الوفد التي كانت تصر على التمسك بحقوقها الدستورية، وعلى أن تجعل من مصر ملكية دستورية يتراجع فيه دور الملك المباشر في السياسة لحساب الحكومة المؤيدة من البرلمان.
أما الأمر الثاني فكان مشروع قانون محاكمة الوزراء الذي أصرت حكومة النحاس باشا على إصداره متضمنا نصوصا تقضي بعقاب الوزراء الذين ينقلبون على دستور الأمة أو يحذفون حكما من أحكامه أو يغيرونه بغير الطريق الذي رسمه الدستور، أو يخالفون حكما من أحكامه الجوهرية، فضلا عن محاكمة أي وزير يبدد أموال الدولة العامة، وكان غرض الحكومة صيانة النظام الدستوري وحمايته من العبث والانقلابات، وقد رفض فؤاد توقيع مرسوم إحالة القانون إلى البرلمان لمناقشته.
عندئذ قدم النحاس استقالة حكومته في 17 يونيو 1930، وأكد فيها أن سببها عدم تمكنه من تنفيذ برنامجه، واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب وأعلن أن الوزارة قدمت استقالتها وحدد أسباب الاستقالة، وغادر البرلمان، إلا أن المجلس قرر بعد مناقشة قصيرة تجديد الثقة بالحكومة.
لكن فؤاد قبل استقالة الوزارة يوم 19 يونيو، وفي اليوم التالي كلف إسماعيل باشا صدقي عدو الشعب وعدو الدستور بتشكيل الوزارة لينفذ نية الملك المبيتة بالتعدي على دستور الأمة ويغتال حقوقها التي اكتسبتها عبر نضال طويل بدأ منذ ثورة 1795 في القاهرة، وفي غضون أربعة أشهر من تشكيل حكومة صدقي، كان الرجل قد نفذ ما دبر له الملك ورجاله، فألغى دستور 1923 وأصدر بدلا منه في 22 أكتوبر 1930 دستورا جديدا مشوها معيبا.
وفي هذه المرة طال الانقلاب الدستوري وامتد لخمس سنوات وعدة أسابيع، عرفت مصر طريق الاستبداد كما عرفت طريقها إلى الحرية.
ويتبع >>>>: مخربشات دستورية2: طريق الاستبداد
واقرأ أيضاً:
الكاتب والكاهن والقائد