حيرة واحد من ملايين: الحلم العربي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله جهودكم وسدد خطاكم. مشكلتي على ما أظن هي مشكلة الكثير من الشباب، فأنا شاب لدي الكثير من القدرات، فأنا أتحدث 4 لغات وأدرس هندسة الحاسوب، لكن كل ما لدي من قدرات مركون على الرف. المشكلة هي أن كل ما درسته نظري بحت، حتى مجال دراستي الذي يتطلب الدراسة العملية لم ندرس فيه سوى نظريات فقط.
لقد كنت في الماضي أحب العمل والمجال العملي كثيرا، لكن عند دخولي الثانوية صدمت بالكم الهائل من المعلومات النظرية التي كان يجب معها ترك كل تطبيق؛ لأنه قد يتعارض مع رأي الأستاذ "المقدس" أو لأسباب أخرى. ومع مرور الأيام بدأت أكره المجال العملي في كل شيء!! لأني طلبته كثيرا، ولم أحصل عليه، ولأني أصبحت أحس بحاجز بيني وبينه. أنا أريد أن أطبق كل ما أتعلمه، فنحن في أشد الحاجة إلى العمل لا الأقوال والنظريات، لكن البيئة المحيطة محبطة، وأنا أحس بمسافة وحاجز كبير بين المجال العملي والنظري في كل شيء، إلى الدرجة التي لا أستطيع معها كسر الحاجز، أو أفشل في كل مرة أحاول فيها!! حتى الدين، فأنا أعرف الكثير من المعلومات والأحاديث والآيات لكني لا أتبعها!! أرجوكم فقد أصبح الركون إلى الأقوال صفة في الشباب لتعرضهم إلى كم هائل من المعلومات النظرية البحتة... كيف أبدأ التحول إلى العمل؟ كيف؟
أرشدوني إلى خطوات عملية لكسر الحاجز؛ علَّ الله يرزقكم الجنة، يشهد الله أني أدعو لكم ليل نهار بالتوفيق والصحة. وأرجو أيضا التوسع في النقاط الثلاثة التي ذكرها الدكتور أحمد عبد الله في رده على المشكلة: حيرة واحد من ملايين: الحلم العربي
والنقاط هي: الوعي، والمعرفة، وإعادة التأهيل والبرمجة، والعمل المباشر؛ لأنها في صلب الموضوع.
27/7/2025
رد المستشار
الأخ السائل، شكرا على ثقتك.
أجبنا من قبل على أحد الإخوة في سؤال مشابه يدور حول الفجوة بين النظرية والتطبيق في تعليمنا وحياتنا، وبالرغم من أن السائل السابق يمكن أن يكون أنت نفسك، فإنه يتعين على أن أتحدث مرة أخرى حول هذا الموضوع المهم؛ بوصفه فصلا من فصول التخلف الرهيب الذي نعيشه في مجال البحث العلمي وارتباطه بالحياة. فالأصل أن البحث يكون في خدمة حياة الناس، وحياة الناس هي المصدر الأهم للمشكلات التي تتطلب بحثا، ولكن هذا لا يحدث للأسف كما نرى جميعا!!
وأنت تشير في سؤالك إلى ناحية هامة للغاية، وهي أن شبابنا يتلقى تدريبا إجباريا -عبر الطريقة التي يعيش ويتعلم بها- على أن تكون الأقوال والمعلومات النظرية الكثيرة منبتة الصلة بحياته، وفي ذلك تفسير لتناقضات كبيرة نعيشها، ومنها سؤال طرحته إحدى المجلات المصرية على غلاف عددها منذ مدة، وكان السؤال هو: لماذا ينتشر الفساد أكثر رغم انتشار التدين؟! فالمعلومات الدينية مثلا أصبحت متاحة بشكل أكبر، ولكنها ما تلبث أن تقع في الهوة الفاصلة بين الذهن والتطبيق: يحفظها الناس عن ظهر قلب، ومستعدون لتلاوتها عند اللزوم، ولكن هذا يبقى بلا قيمة على المستوى العملي. والحالة نفسها في التعليم وكافة نواحي حياتنا!! ولا أزعم أن عندي حلا شاملا لهذه الكارثة، ولكنني أعتقد أن بدايات التفكير في حل تكمن في النقاط التي طرحت عنجدان لها في إجابتي:حيرة واحد من ملايين: الحلم العربي
وقبل أن أحاول تقديم بعض الشرح لها أرجو أن ننتبه إلى عدة مسائل، الأولى: أن الخروج عن الأطر التقليدية في البحث والتواصل مع المهتمين والفاهمين يعين على إنجاز المهام، والإنتاج بشكل أفضل، وقد جف حلقي، وبُحَّ صوتي، وأنا أحاول أن أجذب اهتمام شبابنا وفتياتنا إلى العالم الذاخر "للمجتمع المدني" الذي هو في أصله محاولة للخروج عن الأطر البيروقراطية والحكومية لإنجاز مهام البحث والتدريب والاتصال والتعاون في مشاريع تتفاعل مع الواقع بكافة مجالاته.
وهنا ينبغي أن أقول لك: إن الإحباط واليأس والبكاء على اللبن المسكوب والتخلف السائد لا يؤدي إلا إلى المزيد من الهم والاكتئاب، ولكن يلزمك وأمثالك تحديد مجال تريد أن تطبق فيه معارفك، فأنت تدرس الحاسوب، وتتقن أربع لغات، وهذا رائع جدا كبداية، ولكن في أي مجال تريد أن تنشط؟!
هل في مجال تطبيقات الحاسوب في البحث العلمي؟ أم التبادل الثقافي؟ أم التصميم الفني أو المعماري أم تعليم اللغات مثلا؟!
أم أنك لا تريد أن يكون الحاسوب هو مدخلك التطبيقي، وتريد أن يكون المدخل هو هواية تحبها، أو اهتمام تمتعك المواصلة في خدمته وتطوير نفسك والآخرين به؟!
ينبغي إذن أن تحدد حقل المجال التطبيقي الذي تريد أن تنشط فيه، ويستدعي منك هذا التأمل الذاتي في مهاراتك واهتماماتك.
- المسألة الثانية:
أن تبدأ في الاتصال بالجهات الجادة في ميدان هذا الحقل الذي حددته، وهذه الجهات قد تكون جامعات أو مؤسسات بحثية أو شركات تجارية أو منظمات غير حكومية محلية أو إقليمية أو دولية، والإنترنت يفيدك في هذا كثيرا، ويمكنك البحث عبر محركات البحث المعروفة مثل "google” أو غيره ، وأنت أدري بذلك، والهدف من البحث مبدئيا أن تتعرف على برامج وخطط ومشاريع وقائمة اهتمامات كل جهة في حقل المجال الذي اخترته، ويعملون هم فيه.
- المسألة الثالثة:
أن تفكر في مشروع مشترك بينك وبين هذه الجهة، وهذا المشروع أو الهدف يمكن أن يكون وظيفة تحصل عليها عندهم، أو ندوة تقيمها في بلدك بالتعاون معهم، أو مؤتمرا تحضره بدعم منهم، أو برنامجا تدريبيا يقيمونه أو يرشحونك لحضوره.... وهكذا.
ويفيدك أن تكون عندك نواة محلية في صورة شبكة من أصحاب نفس الاهتمام بالحقل الذي تختاره، وهؤلاء يمكن أن تجدهم من بين زملائك في الجامعة أو الجمعيات والهيئات التي تنشط في مجال هذا الحقل، ويفيد في ذلك أن تبدأ في إثارة الاهتمام بهذا الحقل، وذلك بالكتابة في الجرائد والمجلات العامة والمتخصصة في هذا الحقل، ولا تنس أن تضع في نهاية مقالك أو رسالتك إلى هذه المطبوعات عنوان بريدك الإلكتروني ليتصل بك المهتمون حتى تستطيعوا معا تكوين هذه النواة أو الشبكة المحلية، لأنك حين تدخل في تعاون مع جهة إقليمية أو دولية يفيدك أكثر أن يكون التعاون مع كيان جماعي ما من طرفك.
والآن أعود إلى النقاط الثلاثة التي طلبت أنت بعض التفصيل فيها:
1- الوعي والمعرفة:
تبدو المعارف التي نتلقاها في دوائرنا التعليمية أو الإعلامية أو الاجتماعية قاصرة من ناحية الشكل والمضمون، والاستسلام لما يأتي عبر هذه المصادر يعني الرضا بالعمى الذي يمكن أن تلاحظه بسهولة إذا تحركت في أية دوائر محترمة تعمل في أي حقل.
الشائع بيننا مثلا أن واقعنا لا أمل فيه، ولا مستقبل له، ولا يوجد فيه أي شيء إيجابي، وأن الحل هو خلع الذات من جذورها لزرعها في صقيع الشمال المتقدم، أو البقاء للدفاع عن هذا الواقع "الميت" من باب الفروسية والاستشهاد!!
وهذا هو عين "العمى"، وحتى اللذين يقولون بأن في واقعنا إيجابيات، وروح متطلعة لحياة أفضل لا يعرفون مفاتيح هذه الروح، ولا كيف يطلقونها ويديرونها، والأمر عندهم ما زال في طور المشاعر والأمنيات والجزئي أو البدائي من الخطط والتصورات، بينما لدينا رصيد كبير من الإيجابيات المطمورة، ولدى العالم من حولنا رغبة كبيرة في التواصل والتعاون، ولكن كيف؟ ومن؟ وأين هي البداية؟! لا يوجد تصور!!
معرفتنا بذواتنا تدعو للرثاء، ومعرفتنا بالعالم مثيرة للسخرية، وحتى معرفتنا بواقعنا تبدو مشوشة ومشوهة بحواجز وأقنعة، كما تبدو غارقة في مستنقعات آسنة من الزيف والكذب، والمعلومات المغلوطة، والتبديد والهدر في ظل غياب أسئلة: ما؟! وماذا؟! ولماذا؟!
إن الرغبة في المعرفة الصحيحة تكاد تكون غائبة عن تركيب ذهنية وشخصية أغلبنا، بل نحن نستسهل أن نحصل على حكم نهائي يصدره "ثقة" من أن نعاني لذة البحث بأنفسنا، ومسؤولية الاختيار، ناهيك عن شرف التطبيق العملي لما أثبتنا صوابه.... العبوة كلها غائبة.
2- إعادة التأهيل والبرمجة:
إذا كانت البرامج أو البيئة السائدة تصوغ الإنسان عندنا أبكم لا يستطيع الكلام أو التواصل مع العالم بشكل إيجابي منتج، وتتركه أصم لا يميز بين نقيق الضفادع، وإيقاع الطبول الإفريقية، بين ألحان موتسارت، وضجيج موسيقى الميتال، وعلاوة على العمى فإننا نصبح أمام أعمى، أصم، أبكم، ومشلول عاجز أيضا. وإعادة التأهيل أو البرمجة هي عملية أو عمليات إعادة القدرة إلى هذا المسكين على أن يرى ويسمع ويتكلم ويتحرك بمهارة في عالمه ليكون منتجا ومتفاعلا، والكلام في هذا يطول، والبرامج التدريبية أشكال وألوان وأنواع، وهدفها أن تضع التصورات –التي أوجدتها المعرفة، وحصل الوعي بها– موضع التطبيق، أو بالأحرى تجعل الإنسان قادرا على استثمار وتوظيف وتطبيق معارفه وتصوراته.
3- العمل المباشر:
ومعناه الاشتباك مع المسائل والقضايا دون الالتفاف حولها، أو الدوران، أو التأجيل. وأعطيك هنا مثالا عمليا من خبرة الحركات السياسية والدينية الموجودة في بلدك، وفي كل بلداننا، حيث تقوم خطة وتصورات هذه الحركات على بناء تنظيم قوي وتأمينه وتطويره وتنميته مع ما يتطلبه ذلك من جهد ووقت، ويقوم هذا التنظيم بعد ذلك بمحاولة للاشتباك مع الواقع في نقاط بحيث ينتدب لكل نقطة فريقا من أبنائه يحاولون الخروج من العموميات الدعوية التي هي حصاد ونسيج برامج التكوين للأفراد في التعليم والإعلام والتنظيم، وبالتالي يكون مطلوبا جهد جديد، وتدريب وتطوير لهذا الفريق ليتخصص في السياسة أو الفن أو الصحافة.... إلخ، وليعمل في هذه المجالات خدمة لهداف التنظيم. أما العمل المباشر فينطلق من المهمتين أصلا بمجال ما، ويعتمد على الجدية والاحتراف في هذا الحقل آو ذاك، ويبني الجماعية حول هذا الاهتمام المتخصص، أي إن الجماعية هنا وظيفة من البداية، وليست حركية، والجماعية بهذه الطريقة، والبدء بالمهمتين الجادين يجعل الهياكل في خدمة الأفكار والبرامج والأنشطة، وهذا مختلف عن أن تكون الأنشطة في خدمة الهياكل، والعمل المباشر بهذا يشتبك مع الواقع مباشرة، وليس عبر واسطة التي هي التنظيم في حالة الحركات، ولكنها يمكن أن تكون الجامعة، أو المؤسسة أو الهيئة البيروقراطية الضخمة المثقلة بالأوراق والإداريات مع عدم قدرتها –بحكم ضخامتها واختلاط مكوناتها– على الخوض في التفاصيل، رغم أنها تظل مطالبة نفسها باتخاذ قرارات بشأن هذه التفاصيل، وهي غير مؤهلة للخوض فيها.
العمل المباشر يعني أن يتعاون المهتمون الجادون بحقل ما في إدارة هذا الاهتمام، وتكون العلاقة بينهم قائمة على الاهتمام المشترك بهذا الحقل أولا، والتفاضل داخل حركتهم قائم على درجة المعرفة، وحجم النشاط السابق في هذا الميدان، وليس على أساس الأقدمية، ولا غير ذلك من المعايير غير المحددة بوضوح، وقياس الإنجاز والإنتاج يكون ممكنا بالمقارنة الواضحة بين نشاط هذه المجموعة، والمحيط بها من أنشطة تعمل في نفس الميدان.... وهكذا.
العمل المباشر باختصار يعني استحداث أساليب جديدة في التكوين والتشبيك تكفل معرفة أعمق، وتواصلا أوسع، وإنجازا أكثر فاعلية في حقول الاهتمام المختلفة، متعاونة في ذلك مع الأطر التقليدية، ولكنها في الوقت ذاته تحاول الاستفادة من دروس تجاربها، وتجاوز السلبيات التي تعطِّل عملها... وتابعنا بأخبارك.
ويتبع>>>>: حاسوب ولغات: أمل لملايين العميان مشاركة