أنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري، طالبة بكلية الهندسة في جامعة مختلطة، أشعر أنني ضائعة، وكل ما أتمنى معرفته هو كيف أحيا بإسلامي؟ أنا غير قادرة على فعل ذلك بتاتا، أنا ما قدمت شيئا لديني، أخشى أن أُقبض وأنا في هذه الحالة من الضياع والغفلة، لا أدري كيف أحيا؟ ساعدوني... الدنيا أصبحت في منتهى الصعوبة، الناس ضائعون، لا أجد من هم على الخير أعوانا، بل هناك الكثير منهم، ولكن لا أدري؟ أنا في حالة يرثى لها، أفكر في الذهاب إلى طبيب أمراض نفسية، ولكني متأكدة أنه لن ينفعني، أنا شخصية متناقضة ليس لي اتجاه محدد، أقول شيئا وأفعل شيئا، وفي قلبي أشياء أخرى، أشعر بالذنب، وأشعر بالرضا، أتمنى أن أعيش وحدي فلا أرى أحدا، أتمنى أن أخرس وأعمى وأشل فلا أتكلم أو أرى أو أتحرك، وعلى الرغم من ذلك فإني أحب فضول الحديث، وكثرة الحركة، إنني عالة على المجتمع، لا أقدم خيرا، بل أسبب فساده؛ لأن فساد فرد يفسد المجتمع، وأنا فاسدة، أنا على وشك أن يذهب عقلي، بل وأتمنى أن يحدث ذلك حتى يرفع عني القلم فلا أحاسب!
أنا لا أريد أن أحيا، ولولا أنه ينبغي على أن أدعو الله أن يبلغني رمضان لدعوت الله أن يميتني إن كان في الموت خير لي، الناس تُتخطف من حولي، يموتون في فلسطين والشيشان، وفي كل بلاد المسلمين، وأنا هنا أعاني من أمراض الرفاهية مرضا نفسيا، لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا لا أدري ماذا علي أن أقول؟ وماذا علي أن أفعل؟
أعلم أن القرآن منهج الحياة، أحبه كثيرا، ولكن نادرا ما أقرؤه، ولكني كثيرا ما أستمع، بل دائما ما أفعل، أحب الله لحظة سماعي درسا ما أو آية ما، ولكن هذا لا يظهر في حياتي، أنا لا أدري ما الذي على فعله، أريد المساعدة، أنا أعلم أن الهدى من الله، ولكنني بالفعل لا أدري ماذا أفعل؟ فلذا أنا أسأل أهل الذكر، ساعدوني بالله عليكم، أنا متعبة، أخبروني كيف أحيا بالإسلام؟ جزاكم الله خيرا.
08/7/2025
رد المستشار
ابنتي الحبيبة:
كلماتك أعادتني سنوات للوراء عندما كنا في مثل سنك، وكنا نشعر بنفس المشاعر ونفس الأفكار، مشاعر غضة بريئة وأفكار تخلو إلى حد كبير من العمق والتدقيق، ولكن قد يكون من المفيد أن تدركي أن ما تعانينه من مشاعر الغضب ورفض الذات يعتبر من سمات وطبيعة المرحلة التي تمرين بها، حيث يطمح الشباب في سنوات المراهقة إلى المثالية، ويتصورون واهمين أن من حولهم من البشر ملائكة تمشي على الأرض، ويشعرون أنهم أسوأ خلق الله أو كأن المعاصي قد خلقت لهم ليرتكبوها، وهذا التصور للأسف الشديد يدفعهم لاحتقار أنفسهم، ويكون مدخلا من مداخل الشيطان الذي يتربص بابن آدم ليورده المهالك، وذلك بأن يقنطه من رحمة الله ضامنا بذلك أن يستمر في طريق المعصية والغواية.... ولكن لو أدركنا حبيبتي أن الله سبحانه الرحمن الرحيم أرحم بنا من الأم بوليدها، وأنه سبحانه يفرح بتوبة عباده بأكثر مما يفرح من وجد ناقته وعليها طعامه وشرابه بعد أن فقدها في صحراء مقفرة وأيقن بالهلاك... "لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاه"... ولو أدركنا أن "الإيمان يزيد وينقص" كما علمنا رسولنا وقدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم... ولو تدبرنا في رده على أحد الصحابة عندما شكا له أنهم يكونون عنده صلى الله عليه وسلم على حال ثم ينشغلون بعد ذلك بالأهل والأموال، فكان رد الحبيب المصطفي الذي يدرك جيدا طبيعة النفس البشرية: "لو ظللتم على الحال التي تكونون فيها معي لصافحتكم الملائكة وأنت تسيرون في الطرقات"... لو أدركنا هذا كله وتدبرناه لما سمحنا للشيطان أن يتمكن منا وأن يكون له سلطان علينا.
فهوني عليك يا بنيتي الحبيبة، ولا تتمني الموت أو زوال أي نعمة من نعم الله عليك، وتعلمي أن تشكري الله على نعمة الحياة والعقل والجوارح بتسخير هذه النعم في طاعته كلما مرت عليك هذه الهواجس، وسارعي بالتوبة كلما أتيت ذنبا، وحددي بدقة عيوبك الشخصية، (ومن منا لا يخلو من عيوب) مع وضع خطة للتخلص من هذه العيوب تباعا وحسب ترتيب الأولويات.
وفي هذا قد يفيدك مراجعة الطبيب النفسي، حيث يمكنه مساعدتك في تحديد العيوب ووضع خطة وخطوات للتخلص من هذه العيوب. واللجوء للطبيب النفسي لا يعتبر ترفا يستحق أن تلومي نفسك عليه؛ لأن المشاكل النفسية يمكنها أن تعيق من يعاني منها بأكثر مما يعيقه المرض الجسدي، كما تساعد هذه المشاكل على ظهور أعراض جسمانية (ما يعرف بالأعراض النفسجسدية) وكذلك تعمل على إظهار الكثير من الأمراض الجسمانية لمن تتوافر عندهم القابلية للإصابة (مثل ارتفاع ضغط الدم والسكر وأمراض القلب).
ونأتي للشق الثاني من سؤالك وهو: كيف أحيا بإسلامي؟
وهو سؤال أعتقد أن الإجابة عليه شبه مستحيلة في هذه العجالة؛ لأنه سؤال يلخص الغاية من خلق الإنسان، ولكن سأحاول معك أن نرسم معالم وخطوط الطريق، ولتكن البداية من البداية، منذ خلق آدم عليه السلام: حينما أخبر الله سبحانه ملائكته بهذا الأمر قائلا: {إني جاعل في الأرض خليفة}، ومعنى الاستخلاف أن يقوم المرء برعاية وإصلاح ما استخلف عليه.
ومثال ذلك: لو تركت لك مالي واستخلفتك عليه فإن واجبك أن تحفظي الأمانة وأن تراعيها وتمنعيها من اللصوص والمفسدين وأن تسلكي كل السبل الممكنة لتنمية هذا المال... وبتطبيق هذا المعنى نجد أن الله سبحانه خلقنا وخلق لنا هذا الكون وسخر لنا كل ما فيه من كائنات حية وجمادات لتعيننا على أداء هذه الوظيفة، وبذلك أصبحنا مسؤولين عن الحفاظ على هذا الكون، وتنمية وتجميل كل ما فيه؛ بدءا من أصغر المخلوقات ومرورا بأجسامنا وعقولنا وقلوبنا وبالمحيطين بنا من بني آدم من الأهل والأصدقاء والجيران وغيرهم من الإخوة في الدين والإخوة في الوطن والإخوة في الإنسانية، وكذلك مرورا بالأرض كتربة وكماء وهواء، وبما حولنا من أجرام ومجرات.
وهدفنا في كل حركة من حركاتنا هو تحقيق ونشر معاني ومبادئ العدل والسلام والحب والحرية والكرامة والجمال وغير ذلك من القيم النبيلة التي حث عليها ديننا.
وعلينا في سبيل ذلك أن نسعى لتشخيص مواطن العلل والأدواء، وأن نتعرف على الأعراض، وأن نكتسب العلوم والمعارف والخبرات اللازمة لتحقيق هذه الغايات، والتخصص في مجال ما حسب قدرات الفرد وإمكاناته وهواياته لازم وضروري؛ لأن مواطن الخلل كثيرة والجهد البشري محدود، وكل ميسر لما خلق له، فقد يختار أحدهم أن ينشط في مجال التعليم أو الصحة أو حل المشكلات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية المختلفة أو في مجال المحافظة على البيئة أو الرفق بالحيوان أو غير ذلك من الأنشطة التي تحفظ هذا الكون وتجمل وجهه وترسم البسمة على شفاه قاطنيه.
ولأننا كبشر خلقنا من طين الأرض ثم ارتفعنا وارتقينا بنفخة من روح الله، ولأن قوتنا مهما بلغت، وعلمنا مهما عظم محدود ولا يمثل إلا أقل من قطرة من محيط قوة الله وعلمه، ولأننا لن نؤجر إلا إذا صلحت النوايا؛ فقد شرع الله لنا العبادات من فرائض ونوافل لنتواصل مع مصدر القوة والطاقة، وكأننا نجدد شحن أرواحنا بشحنات من الإخلاص والقوة.
وتصور أن الإسلام ما هو إلا عبادات تؤدى وآيات تتلى وكلمات تحفظ بدون أن ينعكس هذا على حياة المرء وتعاملاته، وبدون أن يفيض هذا على الكون حوله... لهو تصور قاصر وفهم مغلوط ما أنزل الله به من سلطان.
فمتى ندرك هذا ونقتدي بصحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين وصفوا بأنهم كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار؟ ولا يقتصر مفهوم الفارس على الفارس المحارب بالسلاح في ميدان القتال، ولكنه الفارس المحارب بكل الوسائل وفي كل مناحي الحياة.
ومتى نقتفي ونتلمس آثار أجدادنا ممن جابوا دروب الدنيا برا وبحرا، تعلموا العلم وعملوا به وأبدعوا في كل مجالات الحياة؟
ابنتي الحبيبة:
هل تراني جعلت الأمر أكثر صعوبة مما تتصورين؟ أتمنى ألا أكون قد فعلت. ولكن لنعيد صياغة الأمر ببساطة واختصار: اكتشفي نفسك وحددي المجال الذي تريدين العمل والسعي فيه لخدمة مجتمعك، وحددي المهارات والمعارف التي تعينك على حسن الأداء واعملي على اكتسابها، والإنترنت عظيم الفائدة في هذا الصدد بما يتيحه من التواصل مع أصحاب الخبرات في المجالات المختلفة، وابحثي فيمن حولك عن الصحبة الصالحة ممن تتوافق ميولهم مع ميولك لتتعاونوا سويا من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.
مع الحرص على الاتصال الدائم بالخالق سبحانه مصدر القوة والطاقة الروحية، وركعات قليلة ودعوات في جوف الليل لها فعل السحر، والقليل الدائم من العبادات أفضل من الكثير المنقطع، والقليل من العبادة بذهن حاضر وقلب خاشع أفضل من الكثير بذهن لاه وقلب مشغول وجامد.
ابنتي الحبيبة:
أحب أن أسمع منك ما يطمئن قلبي عليك فلا تترددي في أن تتابعينا بالتطورات.