عن جمهورية شارع فيصل (1)
أم هدشير .. بالشين، كانت جارتنا في مدينة 6 أكتوبر قبل زواجي وانتقالي إلى فيصل .. كانت سيدة من حواري مصر القديمة .. وزي كل الستات اللي من المنطقة دي ومن القلعة وشبرا وكل المناطق الشعبية جدعة ودمها خفيف وبترشق حرف الشين في نص كلامها وتمط في مخارج حروف المد بدلع أو بتهديد لو فيه خناقة.
أم هدير كانت بالنسبة لي ظاهرة غريبة .. لأنها أول حد أشوفه بيتكلم بالطريقة دي .. تعرفنا عليها أو تعرفت هي علينا في أحد أفراح الجيران ولأن أمي جدعة زيها فلازمتها ولازمت بيتنا مفتوح الباب دائماً طوال النهار، عرفت نفسها إلينا: «صفاء أم هدشير ومحمت وموصطفااا ونورااااه» أبتسم وأتابعها كأني لقيت لقية .. أحب أن أنكشها وأغلّس عليها حتى تنفجر ببداية خناقة كي أتفرج على تعبيراتها وجملها، ثم تدرك الفخ الذي أوقعتها فيه، فتضحك: «ماشي يا حيناان.. ده أنا من مصر العتشيقة يا بت».
كنت أظن أن أم هدير ظاهرة نادرة إلى أن سكنت فيصل .. وجدت أن هناك الكثيرات من أم هدير .. جدعات دمهن خفيف يهوين الخناقات وينطقن الحروف مثلها. كنت أظن أني رايحة أسكن في فيصل هايتس مثلاً .. عبيطة أنا.
( 1 )
أم عماد ملكة الليل والبلكونات
هي أم هدير أخرى وبشكل أكثر قوة.. تدلع ابنها البكر وتسحق زوجها، تتبادل الشتائم معه أمام الأبناء .. تهينه «يا حمار .. انت ما بتفهمش أصلاً عشان تبقى أب» أنزعج من الخناقات العلنية التي يسمعها ليس فقط الأبناء بل الجيران أيضاً. هي لا تعرف أن علم النفس الحديث مشدد على أن الخناقات لا يجب أن تكون أمام الأبناء .. أحاول أن أخبرها أثناء سلامي بخوف منها وهي تنظر من البلكونة فأتراجع .. أتساءل عن طبيعة العلاقة بين الأبناء وأبيهم .. لسه كنت بتساءل فأسمع خناقة أخرى بين الولد وأبيه .. يطارد فيها الأب الابن إلى الشارع لاعناً إياه بشتائم لم أكن أتوقع أن أسمعها من أب لابنه.
أم عماد دائماً ما تتشاجر مع زوجها ليلاً، تزنقه في إحدى المرات في زاوية البلكونة، تحاصره بجملها الحادة المهينة، مرة أخرى يطلب منها أن تنزل له التليفون المحمول في السبت فتلقيه له من ارتفاع دورين في الشارع .. تزغر له من البلكونة عندما يركن السيارة لطنط ماجدة المسيحية الحلوة جارتنا «محماااااد اطلع .. لأ اطلع حالاً».
كل أيام الصيف يجلسون في البلكونة أمام التلفزيون يأكلون البطيخ أو يتعشون، أسمع أصوات الملاعق والمحادثات حتى الرابعة فجراً .. يزورهم ناس كثيرون والصيف بيحب السهر واللمة .. يتحادثون في أذني .. أحتاج لأن أنام ولا أعرف .. أصب لعناتي عليهم بينما في الصباح إذا صادفتها أبتسم ملقية تحية الصباح، الإنسان ضعيف.
ابنتها (ش) شبيهة لها .. ممتلئة مليحة الوجه، بضة ولأول مرة في حياتي أرى معنى كلمة بضة متجسداً أمامي – لو مش فاهم طلع المعنى من القاموس – تصبغ شعرها كأي بنت شعبية قديرة باللقب بالأوكسجين .. تحرص على إعادة صبغ الجذور في الأعياد حتى لا تضيع رونقها، يوم خطبتها تفتح حجرة الجلوس مصراعيها على الشارع، يقتحم صوتهم بيتي، الضحكات والمجاملات والكثير من «شرفتونا يا حبيبتشي» و«ش.. دي في عينيا» وتظهر رقة أم شهاب بشكل مثير للريبة بالنسبة لي. عقب خروج الضيوف يقف أخوها الأصغر في البلكونة يأكل جاتوه مرتديا الفانلة الحمالات وينادي على أطفال الشارع يغيظهم.
بعدها بشهرين تقريباً تفسخ الخطوبة وتبكي شاهندة وتقتص لها أم عماد في خناقات طويلة في التليفون واقفة في البلكونة لتقض مضاجع نصف شارع السلام الذي عرف كل تفصيلة في الخطوبة من أول كانوا متفقين على إيه لحد سبب الفسخ. في أحد الأيام أسمع أم شهاب تبكي .. تبكي بجد لا تمثيل ولا استعطاف، فيما بعد أعرف أن هناك مشكلة تتعلق بعماد مع أحد ضباط قسم العمرانية وتم تهريب الولد بعيداً عن الحي حفاظاً على مستقبله.
( 2 )
الأطفال أحباب الله .. ولكن ليس في شارع السلام
ينتشر الأطفال في الشارع يلعبون بالكرة، يطاردهم السكان باللعنات والشتائم والماء المرشوش من أعلى .. مطاردون هم دائماً لا يجدون مكاناً يلعبون فيه .. يجلس معظمهم على الأرصفة إن وجدت يحفرون حفراً صغيرة أعرف بخبرتي القديمة في لعب الشوارع أنهم سيلعبون بالبلى بعد شوية، يتركون فريدة تشوط الكرة مرة أو مرتين «وقف اللعبببب» يطلقونها إذا مر أحدهم من وسطهم .. ينطلقون من أول الشارع إلى آخره باحثين عن نقطة لا يرش أحدهم عليهم الماء فيها .. أتذكر أيام لعبي وأتمنى أن تلعب فريدة مثلي ومثلهم، لكن الشوارع لم تعد آمنة مثلما كانت.
يوم جمعة أسمعهم يلعبون تحت بيتنا وأسمع طنط ماجدة تطالبهم أن يلعبوا بعيداً عن السيارة حتى لا يكسروا زجاجها، يتوقف اللعب، يتناقشون .. ألقي عليهم بلالين منفوخة متبقية من حفل عيد ميلاد فريدة وأقف خلف الستارة أستمع لردود فعلهم .. «دي جت منين ياض» وآخر صغير السن «دي شكلها جاية من السما» أبتسم وتضحك فريدة.
( 3 )
ورشة الأخوة الطيبين المزعجين والميكرفون اللعين
ثلاثة أشقاء يتبادلون الدق على رأسي وليس على جوانب السيارات لإعادة إبراز ملامحها مرة أخرى .. أتنفس الصعداء يوم الأحد والأعياد .. طيبون يفرضون عليك احترامهم، يعرضون المساعدة قبل أن تطلبها، يحتفون بفريدة، يصبون علينا دعواتهم والسؤال على صحتها وتقديم النصح لي إذا قررت النزول بها من البيت .. لكن الدق يجعلني كثيراً ما أكره السكن أمامهم، يتحول حواري مع زوجي إلى: «جبت ال تك تك من السوبر تك تك، وانت جاي؟» يرد علي «إيه .. تك تك تكتكتك» أعيد الجملة مرة أخرى بشكل سريع بين الدقات التي تتحول إلى سيمفونية إذا اجتمع الثلاثة للعمل، أصبحت أعرف متى أتحدث ومتى أتوقف بين الدقات.
على ناصية الشارع جامع كبير، تابع لأنصار السنة المحمدية، وعلى الرغم من ذلك هناك زاويتان في الشارع تحت البيوت، إحداهما هادئة يصلي فيها الناس في الداخل، مكيفة الهواء، لا تسمع صوت الصلاة فيها إلا وقت الأذان فقط، والأخرى أسفل المنزل المجاور لي يتجه ميكرفونها إليّ أنا .. نعم إليّ أنا، يرتكز مكبر الصوت على منشر البلكونة المجاورة تماماً لي وأصبح أنا في مواجهة الصوت .. أتحول لحظة الأذان إلى توم وجيري يرتعش أمام الموجات الصوتية لجهاز استيريو كبير كما كنت أراه في أفلام الكارتون .. وفي ليالي صلوات التراويح أتمزق من الإزعاج فهناك صلاة العشاء والتراويح والشفع والوتر يتخللها ثلاثة دروس وكلها في مكبر الصوت وكأن هناك عشرات المصلين في الشارع يفترشون الحصر للاستماع للإمام، صلاة الفجر تقام في الميكرفون أيضاً، أول ثلاثة أشهر كانت تستيقظ ابنتي تبكي من الأذان، أما الآن بعد أن تعودت على الصوت تسألني أثناء خطبة أحد أيام الجمعة: «ماما .. هو عمو بيزعق ليه ؟».
يرفع الأذان أحد كبار السن في المنطقة بصوت أجش وبمخارج حروف غير سليمة، أترحم على سيدنا بلال وأدعو على رافع الأذان في كل مرة.
( 4 )
الشقة المسحورة
في الشقة اللي تحتنا سكن الكثير من الأزواج، منهم زوجان كانا لا يكفّان عن الشجار وطلب الطلاق، لم أكن أستمع إلى صوت الزوج مطلقاً، كان يعمل في صمت .. يضرب وتصرخ هي، يصحو الشارع على صوت ترزيع الأبواب، وأتابع أنا بحدسي تسلسل المطاردة أسفل أرضية شقتي وأنا متوترة .. تصب لعناتها عليه وأمنياتها بأن توافيه المنية قريباً، لا يرد بالطبع بل يزداد ضرباً لها والواضح من تزايد صوتها ومطالبته بالطلاق.
يختفيان تماماً بعد شهر واحد من السكن و يظهر زوجان آخران لسبب ما يطاردهما مجموعة من الناس ويطالبوهما بدينٍ عليهما. يطالبونني أنا أن افتح لهم باب العمارة حتى يتمكنوا من الصعود إليهما، فأرفض، في لحظة شجاعة نادرة مني، بعدها بيومين يخبرنى أصحاب البيت أنهم استطاعوا الصعود إليهما وكسروا عليهما باب الشقة.
أتيقن تماماً من أن البيوت أعتاب وقرف – بكسر القاف – وأتيقن من هذه الشقة لعنة على الأزواج حديثي الزواج، الآن يسكن هذه الشقة بعد شهور من الإغلاق أسرة سودانية طيبة وفوقي أسرة سودانية أخرى تابعة لهم، يتبادلون الكلام من المنور وتشتم رائحة البخور السوداني الجميلة من مدخل البيت، يهوون الطبخ ليلاً ونهاراً، أشم دائماً رائحة توابل عتيقة ومركزة تنساب منهم كما تنساب الأغاني السودانية من شباكهم أثناء لمي للغسيل ويفيض من وجوههم السمراء نور يعوضني التوتر الذي أصابني من هذه الشقة.
( 5 )
ماونت فيو
أمام أحد الإعلانات في التلفزيون عن كومباوند سكني ما تجلس فريدة، وتنبهر بأماكن اللعب والجنائن وحمامات السباحة، تسألني ابنتي: يعنى إيه ماونتن فيو ده يا ماما؟
- يعنى حتة كدة فيه شوارع وبيوت .. بصي زي فيصل كده.
أستدرك في سري: سامحني يا رب.
واقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: الشعب المصري ملطشة / الانشطار الديني وخطر المواجهة الطائفية / الطائفية فتنة للعبث بأمن مصر / السلوك الطائفي!!