اللحظة الحرجة
حكينا في المرة السابقة عن تجربة الدكتور يوسف إدريس الفريدة حين رفض أن يخدر كليا وأصر على أن يشهد بنفسه لحظة اكتشاف طبيعة المرض الغامض الذي أصاب عنقه..... لحظة تحديد ما إذا كان المرض سرطانا أم لا...؛ وحكينا كيف عاش الدكتور يوسف إدريس لحظات التوتر والترقب القاسية، ثم بعدها لحظات الفرح بأن الأمر لا يزيد عن كونه التهابا، ثم حكينا عن شعور الزهو الذي تملكه وقد أيقن بالتجربة أنه يمتلك شجاعة المواجهة.....؛
إلا أن التجربة كانت بالفعل قاسية جدا، ولم تشأ أن تمضي دون أن تترك أثراً لها، فامتلاك شجاعة المواجهة لا يعني أبدا أنه لم يخف، خاف جدا.... لم يدع أنه سوبرمان أو قلب الأسد، خاف مثلما نخاف جميعا، ولكن الفارق مع يوسف إدريس أن خوفه لم يدفعه للهروب من المواجهة...
الخوف الشديد لدى الدكتور يوسف إدريس أدى إلى التوتر الأشد، والتوتر زاد من كمية هرمونات معينة في الدم..... قصة طويلة خلاصتها في النهاية أن القلب سقط مريضاً.....
- والحل يا دكتور؟
أزاح الطبيب الأوراق والأشعات جانبا....... تمهل لحظة، ثم انطلق يعد على أصابعه ملقياً بالأوامر؛
- أولاً يا دكتور يوسف، النوم قبل منتصف الليل....، مفهوم؟
لم ينتظر الطبيب إجابة، وإنما استأنف بصوت زجاجي بارد:
- لا سهر...، ثانياً لا إرهاق بدني، تفهمني طبعا... السفريات، الندوات.... الخ... الخ.... الخ....، ثالثاً الطعام مسلوق وبدون ملح....، رابعاً وخامساً وعاشراً لا إرهاق ذهني.....، تسمعني يا دكتور يوسف؟.... لا إرهاق ذهني....
هم يوسف إدريس بالمقاطعة ولكن الطبيب أشار له في صرامة:
- أعلم أن عملك هو التفكير، ولكن الطب طب، تستطيع أن تمارس عملك ولكن دون كل هذا الاحتراق الذي اعتدته (وصمت لحظة قبل أن يضيف في مسحة ود وإشفاق)..... يا أخي ما الداعي لكل هذه الصدامات، أتظن أن شيئاً يمكن له أن يتغير...؟ تعوّد كيف تتغاضى حيناً، وتتظاهر حيناً آخر، وتتهادن.....
مال يوسف إدريس إلى الأمام مستوضحاً:
- عفواً هل قلت أتهاون؟
- لا.... سمعتني خطأ.... أنا قلت تتهادن..... بالدال..... فارق كبير......
- حقاً؟
- اسمع يا دكتور يوسف -قالها الطبيب بصبر نافذ-.... أنا لن أدخل معك في مناقشة فكرية، نسمة بنتك عمرها الآن خمس سنوات..... هه؟.... تريد أن تعيش حتى تفرح بها أو لا تريد هذا شأنك، أما ما ليس من شأنك ولا تملك فيه قراراً فهو حقها في أن يكون لها أب...... أليس كذلك؟
ارتعش جفن يوسف إدريس حناناً حين أتى ذكر نسمة، تصورها في ضفائرها ذات الشرائط الملونة وهي تودعه كل صباح بقبلة وتذكره بقائمة من الحلوى..... من يحبها هكذا من بعده؟
وبدت على وجهه الحيرة...، أيواصل إبحاره في الحياة بالطريقة التي يحبها..... أم يستسلم للطب وأوامره؟! وإن استسلم فأي طعم هذا لحياة خلت من كل ما يجعلها تستحق أن تعاش: الهدف، القضية، التحدي، السعي الدءوب، زهو الانتصار على القبح والتخلف....، وأي أب خامل مهادن هذا الذي سيبقيه لنسمة لتفخر به يوما ما.....؟
لم يدر كم من الوقت مر عليه قبل أن يرفع رأسه للطبيب في رجاء:
- ألا يوجد حل ثالث؟
- الحل الثالث يا دكتور يوسف عملية جراحية لا زالت قيد التجريب.... عملية قلب مفتوح.....
ثم صمت الطبيب لحظة قبل أن يضيف بهدوء....:
- يعود بعدها قلبك كما قلب شاب في العشرين....
- حقا؟ بلا أدوية؟
- إلا القدر اليسير
- وبلا تعليمات وأوامر؟
- إلا التعليمات العامة التي ننصح بها الأصحاء..... لا تدخن.... لا تر...
لم يلق يوسف إدريس بالاً لبقية الحديث، ذهب ذهنه في حسابات سريعة فلم ينتبه إلا والطبيب يختم كلامه محذراً: ولكن تمهل..... هذه العملية الجراحية ما زالت قيد التجريب......
لم يكن هذا التحذير ذا أهمية مع رجل كالدكتور يوسف إدريس: شعاره أكون أو لا أكون، أعيشها كما أحب أو أغادرها تاركاً ورائي الاحترام.
في خلال أسبوع كانت أوراقه على مكتب الجراح في بريطانيا.....
أسبوعين بعدها كان في غرفة العمليات والجراح يشق صدره.....
بعد شهر كان يتمشى سعيداً في حديقة المستشفى.....
كم عاش الدكتور يوسف إدريس بعدها؟ عاش عشرين عاماً....
وحين مات ذات شتاء..... مات وهو يشعر بالرضا.....
أما نسمة التي كبرت الآن فحين يسألونها عن اسمها لا تقول نسمة يوسف، أو نسمة إدريس، وإنما ترفع رأسها وتجيب برنة فرح لا تخطئها أذن: اسمي نسمة يوسف إدريس....
واقرأ أيضاً:
شنبو في المصيدة / بطوط / مظلة المؤمن