كان الدكتور يوسف إدريس رجلا مقاتلا، اشتغل فترة بالطب، فلما رأى أن العلاج الحقيقي يبدأ بعلاج عقل المجتمع تحول إلى كتابة القصة القصيرة، ولما وصلت عيوب المجتمع إلى درجة لا تجدي معها رمزيات الأدب وبلاغياته تحول إلى كتابة المقالات المباشرة. كانت مقالاته أشبه بطلقات رصاص يوجهها تجاه ما يراه ضد التقدم.... كان حادا، صريحا إلى حد الاصطدام، إلا أن اصطدامه الأكبر كان مع نفسه، مع ضعفه الإنساني، مع رغبة الإنسان الغريزية في الهروب من لحظات الخطر.
بدأت الحكاية بألم خفيف في الرقبة، بسيطة، راحة يومين مع مسكن. ولكن الألم آخذ في التزايد، يبدو أنه لابد من استشارة طبيب: مطلوب أشعة.... فقط لمزيد من الاطمئنان، وظهرت نتيجة الأشعة: هناك منطقة "ما" في عظام العنق مظلمة لسبب "ما"....
- وهذا ال"ما"..... ما هي احتمالاته؟
هكذا سأل يوسف إدريس بصوت يشوبه بعض القلق...، ران على الغرفة صمت ثقيل قطعه يوسف إدريس بسؤال مباشر:
- سرطان مثلا؟
بوغت الطبيب..... جاءت إجابته متلعثمة.
- لا نستطيع أن نجزم بذلك، ربما كان التهابا شديدا، على العموم دعنا نرى.
- كيف؟
- هناك طريقة حديثة للتشخيص -كان هذا في أواسط السبعينيات-.....، سندخل إبرة في هذه المنطقة المظلمة المريبة في عنقك، إبرة متصلة بشاشة تليفزيونية لنرى الذي يحدث بالضبط.
- وبعد؟
- إذا عجزت تلك الإبرة عن اختراق هذه المنطقة كان معنى ذلك أن العظام لا زالت صلبة وسليمة، وأن الأمر كله لا يزيد عن كونه التهابا....
- وإذا اخترقت الإبرة المنطقة؟
- كان معنى ذلك أن العظام قد صارت هشة ومتآكلة.......
- سرطان يعني....؟!!
سكت الطبيب، كان صمته يحمل الإجابة القاسية.
لم يسأل يوسف إدريس عن احتمالات هذا واحتمالات تلك، لم يسأل عن أي شيء، وإنما وضع رأسه بين كفيه وراح في تفكير عميق.... حين رفع رأسه، كان الطبيب لا يزال ينظر إليه في حيرة.....
- .... لي شرط وحيد يا دكتور: أن أحضر تلك اللحظة، اللحظة التي تقتحم فيها الإبرة عنقي، لحظة تحديد المصير، ولذلك ستجري لي هذه العملية بدون تخدير.....
- مستحيل، إدخال الإبرة عملية مؤلمة للغاية...
- إذاً فليكن التخدير موضعيا، المهم أن يظل عقلي يقظاً ليحضر لحظة النطق بالحكم..... الحكم باستمرار الحياة، وسكت لحظة قبل أن يتمتم:....... أو ربما الحكم بالموت.....
على شاشة تليفزيونية صغيرة كانت الإبرة تبدو بين الأنسجة والعظام، وأمام الشاشة كانت عيون يوسف إدريس تترقب، لحظات بطيئة ثقيلة و.... الإبرة تقترب.... على الشاشة تظهر المنطقة المريبة، يتصاعد التوتر.... الإبرة تقترب أكثر وأكثر... الإبرة تلامس.... الإبرة تدق على العظام الصلبة السليمة، العظام الجميلة العظيمة الرائعة، المليئة كصاحبها بالإصرار على الحياة.
التهاب، مجرد التهاب، يا لجمالك يا هذا الالتهاب.....، تحولت غرفة العمليات إلى فرح شعبي، البعض يهنئ والبعض يبكي، والبعض سجد لله شكراً....، وحده يوسف إدريس كان شعوره أكبر بكثير من مجرد الفرحة.... كان زهواً، زهو من أيقن أنه يمتلك شجاعة المواجهة (ثاني: شجاعة ماذا؟ المواجهة.....هه؟)
انتهت المساحة ولم ينته الحديث عن يوسف إدريس......
ويتبع >>>>: أكون أو لا أكون
واقرأ أيضاً:
شنبو في المصيدة / بطوط / الحيل الدفاعية (6/6) / مظلة المؤمن