هذه المرة لم تُصبني حيرة اختيار موضوع المقال، تذكرة النفس فرضت نفسها علىّ بغير منافس، خصوصا بعد أن أقسمت بالله العظيم أن أؤدي واجبي بأمانة كوزير للثقافة.
قررت أن أستعيد معكم بعض الملامح الأساسية التي دارت حولها مقالاتي على مدى خمسة عشر شهرا في نفس هذه الصفحة.
كتبت كل مقالاتي السابقة من موقع المراقب أو الناقد أو المعارض أو المتضرر، اليوم وقد انتقلت إلى موقع من مواقع المسؤولية أسارع بتوريط نفسي، وأُذكّرها بما أتمنى أن أتعامل معه على أنه ميثاق عملي الجديد:
كتبت مرة مقالاً بعنوان «من الذي يدفع ثمن الذعر؟» منتقدًا مواكب المسئولين، وتعاليها على المواطنين بتصنيف أصحابها فوقهم، وتمييزهم بدرجة تتنافى مع أول بنود حقوق الإنسان وهو بند المساواة.
كذلك سخرت من المصروفات الباهظة التي تصرفها الأجهزة الأمنية لتأمين سلامة المسئولين وتصفيح سياراتهم لحمايتهم، وكأنهم ثروة قومية لا تُعوَّض! أعي تماما أنه لم ولن يُخلق مَن تتوقف عليه حياة الناس، لذلك قررت أن أقود سيارتي في أول اليوم وآخره، وأن أسير على قدميّ دون حراسة كما اعتدت طوال عمري.
كتبت أيضًا بعنوان «النفاق هو الأسوأ على الإطلاق»، وهو عنوان لا يحتاج إلا إلى توضيح بسيط، فأنا أعنى النفاق في الاتجاهين: لن أنافِق، ولن أترك أحدا ينافقني.
الشهر الماضي - وبمجرد اندلاع أحداث تونس- كتبت «المياه والإرادة الشعبية».. مقال سجلت فيه أن المياه والإرادة الشعبية لا يقاوَمان، وهما -لابُدّ- منتصران.
درس علمني أن الشعب هو السيد، وأن الحكام خدمٌ له.. مفهوم استقر في كل الديمقراطيات الناضجة، ولم نكتشفه إلا مع ثورتنا العظيمة التي اشتعلت يوم ٢٥ يناير، ونتمنى ألا تنطفئ شعلتها المتقدة أبدًا.
في كثير من المقالات أوضحت كراهيتي الشديدة للاستثناءات، فهي في رأيي مفتاح كل فساد، وهى الأم الشرعية لأبعد الأعمال عن الشرعية.. أعنى الرشوة. نعم، أقسم بالله العظيم أنى لن أسمح بأي استثناءات، ولن أتهاون مع مفسد أو فاسد، راشٍ أو مرتشٍ.
كنا في انتظار حدث عظيم كي نتغير، وها هي الثورة الشريفة قد وقعت، وأوقعت صروح الفساد والظلم والتمييز البغيض. في مقال آخر تهورت، ودعوت صراحة للتغيير، وتعجبت من رفضنا للتغيير تحت ادّعاء «اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش»: أحد أمثلتنا الشعبية التي تستخدم كثيرًا في غير مكانها.
كتبتُ عن أهمية المنهجية، والتفكير الجماعي، ودور النقد، وضرورة توفير المعلومات، والشفافية المتناهية بدلاً من التعتيم المشبوه الذي لابُدّ أن يُفقِد الناس الثقة في الحكم. دعوت كثيرًا إلى حرية التعبير التي تقوم عليها كرامتنا جميعًا.. الحرية المسئولة اختبارٌ صعبٌ أدخله مطمئناً بعد أن اكتشفت المعادلة الدقيقة بين حرية التعبير التي ترتكز عليها كل الحريات واحترام هوية المجتمع المصري وعمقها التاريخي.
أستكمل هذه النقطة بتذكير نفسي بأني من أكثر المنحازين لعدم فرض أي شيء بالقوة أو بالقوانين واللوائح، فالأولى بنا أن نلجأ إلى الحكمة ونشر الوعي على أوسع نطاق حتى يتجنب أبناؤنا التدخين والمخدرات وباقي القائمة التي تهدم المجتمع وتَحُول دون تحقيق طموحاته.
يومًا ما كتبتُ عبارة تعلمتها من أبى: «الحريات لا تُمنَح»، عبارة أعتبرها حجر الأساس لثقافة الثورة التي يجب أن نغرسها في ضمائرنا حتى تترسخ وتترسب على جيناتنا، فنورثها بعد رحيلنا لكل الأجيال القادمة لمواجهة أيِّّ باطش أو طاغية.
كثيرًا ما كتبتُ عن الدين في مصر موضحًا أنى أَعنِى به الإسلام والمسيحية معًا متمسكًا بحرية العقيدة.. الذعر من الدين أصاب النظام الراسب في أول امتحان يُجرَى بدون غش.. سقط النظام، وبقى الدين ليؤدى دوره المتسامح في دولة حديثة تدرك أن وصفها بالمدنية لا يعنى أبدًا أنها لا دينية تتنكر لرسالات السماء كمصدر للقيم والأخلاق التي صيغت لاحقًا على شكل دساتير وقوانين.
التنوير -كان ولا يزال- همي الأكبر، وقد سعيت لنشره مع الفكر والفن والثقافة من خلال الساقية.. الآن أصبح من واجبي نشرها جميعًا على أوسع نطاق.
قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون». راقبوني، واطردوني من خدمتكم عند أول انحراف عمَّا سجَّلْتُه على نفسي من تعهدات.
*وزير الثقافة في التشكيل الجديد للحكومة
المصدر: جريدة المصري اليوم
واقرأ أيضاً:
القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ / بين أمجاد الغرب، وأوهام العرب / حكاوي القهاوي (32)