بحر الظلام (1)
الفصل الثاني: إلى النور
حينها رأيتهم.....
يالله... ما أروع هذا المشهد... سفن كبيرة تبحر معاً.. متجاورين متلاصقين كبنيان مرصوص.. كسد منيع في وجه طغيان البحر وفجوره... كجسر عظيم يمتد إلى ما بعد البحر وما وراء البصر.. إلى شطآن النجاة والخلود.. وإذا نظرت إليهم وقد أشرقت عليهم شمس الهداية وراحوا يبحرون على ضوءها بثبات وشموخ.. رأيت جبالاً خلقت في صورة سفن.. ورأيت نعمة الرحمن وهدايته ونوره سيفاً مضيئاً.. يمزق السحب السوداء فوقهم.. ويهلك الضباب الحالك حولهم فيبدد ظلامهما.. ثم إذا بذلك السيف الإلهي يتسع وينبسط على سطح الماء كبساط سحري.. يضرب لهم من البحر طريقاً أمناً.. يبحرون فيه.. لا يخشون دركاً ولا غرقاً... يسيرون أشرعتهم بنفحات الرحمن وبركاته ونعمائه لا برياح البحر الهوجاء الغادرة..
ألا فطوبى لهم... طوبى لمن كان الرب دليله وكافله وحاميه.. أفتجرؤ الأحزان أن تمس قلبه؟ أويجرؤ الظلام أن يسكن عقله؟ أو ينطفئ منه بريق الروح؟ أيهاب شيطانًا; أو طاغيةً؟!! أو يخشى غرقاً أو هلاكاً؟!! كلا والله....ألا فطوبى له ثم طوبى له...
"إلى هناك أيها البحارة" هكذا صحت فيهم آمراً.. وما كانوا ينتظرون أمراً على كل حال.. بدأت اقترب منهم;... وسفينة منهم تقترب مني أكثر فأكثر.. ترسل لي من ضوئها شعاعاً تلو شعاع كي أهتدي به... أخيراً وقفت بحذائي.. أطل قبطانها وخاطبني.. "أراك في محنة يا أخي"... يا أخي!!! لقد حسبت تلك المشاعر قد اندثرت في هذا البحر... حسبت الناس تركوها عند شاطئ الطفولة الذي انطلقنا منه يوماً.. إذ لم أرها منذ ذلك الحين!!!...
"نعم.. قذفني البحر إلى هذا الكرب، وإني لأنتظر الهلاك في أي لحظة"
ابتسم وقال "اطمئن، لن تهلك -بإذن الله-، سأساعدك... سأظل معك حتى تنجو من هذه الورطة، ولكن أولاً.. احكم ربط هذه الحبال بين سفينتينا كي لا يفرقنا البحر، ثم انصب هذا الجسر كي آتي إليك".. وما إن ربطت الحبال حتى استقرت سفينتي بعض الشيء... كأنما سرت بعض النعمة والهداية في هذه الحبال إلى سفينتي.. نصبت الجسر فجاء إلي.. راح يطمئنني ويربط على فؤادي.. يتحدث إلى دليلي.. يرشد الربان والبحارة.. وأثناء هذا، لا يكف عن تذكيرنا بوجهتنا وهدفنا... بشطآن النعيم والخلود والرضوان.. وكيف أن الرحمن قد خلقها بيده وغرس فيها من ألوان النعيم وأصناف السعادة مالا يخطر على قلب بشر، وكيف أنه -سبحانه- ينتظر عباده الصالحين هناك بشوق أشد وأعظم من حنيننا الذي يدفعنا إلى هناك.. فيا له من إله رحيم حليم، ويا لنا من بشر حمقى جهلة...
ثم قال وهو يشير إلى قافلة السفن التي جاء منها "يجب أن تتجه الآن إلى هناك، وتبحر مع هذه السفن.. سأعود إلى سفينتي.. لكن دع هذه الحبال معقودة بين سفينتينا، كي نشد من أزر بعضنا البعض، إذ لا طاقة لأحد بالإبحار منفرداً في هذا البحر"
رحنا نبحر إلى هناك.. وما هي إلا سويعات حتى انحسر الموج، وخرست الريح وانقشع الظلام وهدأت السفينة.... لقد وصلت أخيراً.....
وقفت أتأملهم عن قرب.. آآآه.. هكذا إذن يبحرون معاً.. هكذا إذن لا تهزمهم العواصف ولا تفرقهم الأمواج والأنواء... لقد كانت كل سفينة منهم مربوطة بما حولها بأربطة قوية.... سلاسل فولاذية صلبة... صنعت من الحب العميق الطاهر.. والأخوة الصادقة المخلصة... لقد صهرت نار الإيمان حديد الحب والإخاء لتنفي عنه خبث الأهواء والمطامع، فجاءت تلك السلاسل الفولاذية. لكن كيف اشتعلت نار الإيمان في هذا البحر البارد... وكيف بقى الحديد في هذا الجو الخبيث دون أن يصدأ... هذا غريب.. لابد أن نعمة الإله وهدايته لما انبسطت على سطح البحر لتضرب لها طريقاً آمناً، انبثقت تلك السلاسل منها، فهي جزء لا يتجزأ من نعمة الله التي تحفظهم في هذا البحر.. نعم... إن هذه الروابط ليست من بحرنا هذا.. بل هي من سماء الإله...
هنا خاطبني قبطان السفينة الأخرى قائلاً "الآن قد انحسر عنك الموج، وأبصرت عيناك النور، وعرفت سر الهداية الإلهية، الآن الزم هؤلاء القوم.. فهم أطواق النجاة في هذا البحر.. مصابيح الهدى ومشاعل النور في سواد ظلامه.. مد حبالاً من الحب والثقة بينك وبينهم، ولتكن من الحديد الصلب والفولاذ المتين، واغرس نفسك غرساً بينهم، فما نبت في الأرض الطيبة لا ينبت إلا أطيب الثمر" ..
وهكذا وقفت على سطح سفينتي هادئ البال، قرير العين، مطمئن النفس، ورحت أطيل النظر في البحر من حولي، وأتأمل حال السفن الأخرى......
فرأيت عجباً.......
رأيت ما أشعل في قلبي معاني الرحمة والشفقة..
رأيت ما أهاج في قلبي الأحزان والآلام ....
رأيت........................
واقرأ أيضاً:
حين رحلت / مشروع قتل! / الآخِرْ / ثَمَـنٌ!! / مرافعةٌ أولى: / يا التي منك... / أي ماءٍ؟؟؟ / حاؤه ..وباؤهُ .... / وَهَنيئًـا ! وَمَـريئــًا...