الفصل الأول: الخدعة الكبرى
الظلام؛ هو كل ما أراه وأشعر به، حين أقف على مقدمة سفينتي، سفينة الحياة.. التي أوشكت أن تصير قبرًا.. يرقد برفاتي في أعماق هذا البحر المظلم، رحت أتمشى قليلاً على سطح السفينة غير عابئ بصراخ البحارة وهم يحاولون يائسين كبح جماحها، ومنعها من الاستسلام لثورة البحر الهائج.. ولا بأخشابها وهي تئن تحت وطأة الأمواج العاتية، إذ تهم كل خشبة أن تفر من أختها صائحة "نفسي نفسي".. الدفة تدور بلا هدف.. تدور بجنون.. كأنما تآمرت مع البحر ضد ربانها المسكين الذي وقف عاجزًا عن فعل شيء.. البوصلة.. تدور هي الأخرى في جنون حول نفسها.. كأن الهول صعقها، وأطار لبها فنسيت وظيفتها، وما عادت تدرك شمالاً ولا جنوبًا.. ولا سماءً ولا أرضًا.. أو كأنها تريد الإفلات من مدارها والهروب من هول هذا البحر.. إلى أين؟!! لا مفر.. لا مفر..
وإذ راحت عيناي تدوران في الظلام المحيط بنا.. راح قلبي يتجول في أروقة نفسي ومتاهاتها المظلمة، للمرة الألف ينبش قبر الماضي، يخرج منه دفتر الذكريات، عله يدري.. كيف؟ ولماذا؟..
يفتح أولى الصفحات.. بصوت عال يقرأ.. والمشاهد تتوالى أمام عيني كحلم قديم..
نحن الآن أطفال صغار، ليس لنا من الكون إلا شاطئنا الذي نشأنا فيه، شاطئ الطفولة البريئة... نلهو ونلعب، نضحك ونمرح، ومن رمال خيالنا الخصب نبني قصورًا لأحلامنا وقلاعًا من الآمال الباسمة، ونزهو بالانتشاء إذ ننظر إليها.. ولم لا؟ ونحن ما عرفنا الحياة إلا هذه الشمس الساطعة.. والرمال الناعمة.. والبحر الأزرق الفاتن بجماله الخلاب..
غير أننا كثيرًا ما كنا نرمق هذا البحر الفاتن.. بحر الدنيا.. ونحلم.. نحلم باليوم الذي نبحر فيه إلى عالم النضج والرجولة.. عالم العمل والمسئولية.. وكل منا يرسم لنفسه طريقًا، ويتخيل سفينته وهي تشق البحر بثقة، وهو على ظهرها بطلاً مغوارًا كالسندباد أو أعظم.. ولم لا؟ إن هي إلا سويعات ونصل إلى هدفنا.. إلى شطآن الخلد والنعيم والرضوان..
رباه.. ما أجهلك أيها الطفل.. وما أشد غرورك وحمقك.. أم أقول.. ما أجهلك أيها الإنسان وأشد غرورك وحمقك في كل أطوار حياتك..
ثم حانت اللحظة.. ركب كل منا سفينته مندفعًا إلى أغوار هذا البحر.. بحر الحياة الدنيا.. وما هي إلا أيام قلائل، حتى راح البحر شيئًا فشيئًا يخلع قناعه الزائف ويظهر وجهه القبيح.. أمواج الشهوات تعلو.. رياح الأهواء والنزوات تشتد وتزأر.. دوامات المصائب والآلام تصحو.. ضباب الجهل يحكم قبضته.. سحب الشبهات والضلالات تحتشد لتحجب شمس الهداية الإلهية وتطمس نور الفطرة.. وكلما بعدنا عن الشاطئ، كلما زاد البحر في غيه وفجوره.. كأنه يزداد يقينًا بأننا لن نعود أدراجنا لنفلت منه.. أو كلاعب الورق الماكر والساحر الخبيث، لا يكشف ورقه دفعة واحدة ولا يخرج كل ما في جعبته فورًا، بل يفعل ذلك شيئًا فشيئًا.. فكلما تخطينا موجة قذف إلينا بأشد وأعتى منها.. كلما أفلتنا من مكيدة حاك لنا أخبث منها.. أو كأنه القط يعابث الفأر المحاصر بساديته قبل أن يلتهمه، فكلما جد الفأر في الفرار كلما جد القط في مطاردته وحصاره ليحكمه دومًا في قبضته..
ألا سحقًا وبعدًا لك أيها البحر الغادر..
اشتد اضطراب السفينة وتمايلها، وراحت تضل عن مدارها المرسوم لها.. وأنا أرمق المشهد في وجل.. "البحر يدفعنا يسارًا" كذا خاطبت الدليل الحكيم الذي اصطحبناه معنا ليرشدنا إلى الطريق.. "ماذا؟؟ يجب إذن أن نعدل مسارنا فورًا.. يجب أن نخرج من اليسار، يجب أن نلزم الوسط دائمًا" .. "ولماذا؟"
"ألا تلحظ الظلام يزداد قتامةً كلما اتجهنا يسارًا.. ألا تشعر بالأمواج والرياح تشتد وتجذبنا أكثر وأكثر.. ألا ترى الصخور العملاقة التي تهشم السفن.. ألا ترى الشياطين تبرز من الأعماق المظلمة لتجذب السفن وتغرقها معها"
لم أر الصخور ولا الشياطين التي يتحدث عنها، إذ أن الظلام كان حالكًا، غير أني شعرت بها.. ثم إن زمام سفينتي يتفلت مني رويدًا رويدًا.. إذ غدا البحر بموجه العالي ورياحه العاصفة وظلامه الحالك هو قبطان هذه السفينة لا أنا..
صرخت آمراً "أيها الربان، أيها البحارة أصلحوا مسار السفينة فورًا.. اخرجوا من هذا الظلام.. عودوا بها إلى الوسط"... لكنهم لم يفعلوا.. لم يقدروا.. البحر أقوى منا جميعًا.. لم نعد نبصر نورًا نسير إليه أو حتى نجمًا نهتدي به... نبحر في ظلام حالك.. يطبق على أنفاسنا.. ظلمات بعضها فوق بعض.. إذا أخرج أحدنا يده لم يكد يراها.. رباه.. ماذا أفعل الآن؟ ماذا أفعل؟؟.. وإذ راح قلبي يضطرب في صدري حيرةً وخوفاً كاضطراب سفينتي أو أشد.. إذ ببصيص من نور يداعب عيني.. أتلفت حولي باحثاً عن مصدره... حينها....
رأيتهم......
ويتبع >>>>>>>>>>>: بحر الظلام (2)
واقرأ أيضاً:
حين رحلت / مشروع قتل! / الآخِرْ / ثَمَـنٌ!! / مرافعةٌ أولى: / يا التي منك... / أي ماءٍ؟؟؟ / حاؤه ..وباؤهُ .... / وَهَنيئًـا ! وَمَـريئــًا...