رحلة بدأت من شواطئ عيونهن إلى أعماق روحي (زيارة لمستشفى المعمورة للطب النفسي بالإسكندرية)، لم أنسَ صوتها وهي تردد رقمًا للهاتف المحمول وبتكرار ٍسريع، وفي يدها ورقة صغيرة تعطيها لزميلي وتطلب منه أن يتصل بأبيها ويقول له أن يأتي ليخرجها من هنا، وتؤكد عليه:"ضعها في جيبك.. اتصل به وقل له أن يأتي ليأخذني".
لمحت برأسها بعض الشعيرات البيضاء المتناثرة التي وشت -رغم ضآلة حجم صاحبتها- بأنها أوشكت أن تنهي العقد الرابع من عمرها.. ترى ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟!
وتلك التي جلست بالقرب منا وهي تضع (باكو) البسكويت بصدرها، وعندما قلت لها "كليه الآن واشربي العصير" قالت: "مفيش نِفس.. أنا حتى ما كلتش الغدا"
فقال لها زميلي: "معلش يا حاجة غُمّة وتزول إن شاء الله"
قالت: "والله يابني أنا حافظة كلام ربنا"، وتكررها، وبعدها تقول: "همّ أهلي اللي جابوني هنا أو اللي عملوا فيا كدة".
أما التي طلبت أن تأخذ علبة أخرى بعد أن أخذت نصيبها، وعندما قال لها العامل: "لقد أخذتِ نصيبك".. تركته قائلة "مش واخدة حاجة خالص اهو".. ووضعت كل ما أخذت وتركتنا.
وعندما ناديتها لم تلتفت ودخلت بعد أن أوجعت قلوبنا جميعا.. أي عزة نفس؟! ربما اختل عقلها أو اضطرب أما إحساسها فلم يصبه العطب بعد!
وعندما دخلنا المكان المعدّ للأكل وطلبوا منا المشرفين أن نصطف ونحضر نصيب كل مريضة في يدنا، وبسرعة حتى لا يحدث شغب، وأن يحضر كل منا شيء ليكون جاهزا دفعة واحدة تأخذه المريضة بيدها مرة واحدة (الوجبة والعصير والبسكويت)، وتخرج علينا المريضات فرادى كل واحدة تأخذ نصيبها وتجلس لتأكله، إلى أن ينتهين من الأكل ثم يدخلن العنبر ثانية.
لاحظنا أشياءً عديدة:
0 أولها أن كثيرات منهن كن يطالبن بنصيب صديقاتهن النائمات في الأسرّة واللائي لم يستطعن الحضور بأنفسهن.
0 لاحظنا أيضا أن منهن من كانت واعية تماما وتدعو لنا، ومن تقول أن أحدا لم يزرها منذ شهر رمضان، ومنهن من كانت تائهة في ملكوت آخر لا يعلمه إلا الله.
0 كما لاحظنا تفاوت أعمارهن فمنهن ذات الثمانية عشر ومنهن من كانت فوق السبعين عاما... عيون زائغة ممتلئة بالمرض، منها الباسمة ومنها الواجمة.
0 والملاحظة الأهم هي أنهن غير خطرات بالمرة.... هادئات وديعات، منهن من تقابلك ببشاشة وفرحة وتدعو لك وتسألك أسئلة ربما لم تفهمها أو لا تعرف بماذا تجيبها والتي لم تفعل فهادئة ساكنة.
أوجعت قلبي من همست في أذني "ابقي هاتِ بدنجان مخلل"... أين أهلك صغيرتي؟!
كيف تركوكِ وتركوا رغباتك البسيطة في أكلة تمتلئ بها بيوت البسطاء؟!
أما الحالات الأكثر إيلاما، فهي حالات المريضات النائمات على الأسرّة في العنابر.. بعد أن أكل الجميع أدخلتهن المشرفة واحدة واحدة لتتأكد من أنهن قد أكلن كل ما معهن حتى لا يبعن شيئا مقابل (سيجارة) بالطبع معروف من الذي يبيعها لهن!
بعد أن دخلن سألتنا المشرفة -أنا وزميلتي- إن كنا نستطيع أن نبقى معهن بعض الوقت، قلت لها "أنا مستعدة لذلك بل وأريد" فدخلنا إلى العنبر لنوزع على المريضات بالأسرّة. كانت زميلتي تضغط على يدي من آن لآخر وأنا أشدد من أزرها وقلبي يتمزق وكلانا تحاول تجميد الدموع في عينها.
نائماتٍ ولسن نائمات، هائمات، عند إيقاظهن يتحركن ببطء شديد، يمددن أيديهن في وهن.. اللهم الطف بهن.. بهم جميعا يا أرحم الراحمين.
في العنبر لاحظنا أن المشرفة كانت تطلب من إحدى المريضات أن توقظهن وتؤكلهن وتشربهن العصير، وشعرت منها أنها أهل لتحمل المسئولية وأنها تقوم بذلك عن حب.
لم أنقل كل ما مرّ به قلبي وعقلي من مشاعر وأحاسيس، وربما كتبت وأنا مشوشة فخرجت الأفكار غير مرتبة؛ ولكن كان لزاما علي أن أكتب.. كي أبلغ رسالة قرأتها في عيونهم جميعا هناك:
"نحن بشر.. نحيا لم نزل تحت سمائكم التي تستظلون بها، لم نمت بعد.. نشعر بكم.. نفهمكم حين تتعاملون معنا ويؤسرنا المعروف والمعاملة الطيبة.. لا نثور إلا إذا تعرضنا لضغط عصبي شديد وإهمال جسيم في الرعاية والعلاج، وحتى في هذه الحالة فلا خطر منا عليكم.. لا نستحق منكم السخرية فنحن لسنا كما تصورنا وسائل إعلامكم، نحن أناس حساسون، لن يشعر بنا إلا من كان على درجة من الرقي في المشاعر والصدق مع الذات".
كم كنت في حاجة إلى هذه الزيارة، هذه التجربة الثرية التي ترقق القلوب وتجعلك شاعرا بعظيم منن الله عليك وكيف أنك مغمور بنعم لا حصر لها، لو تذكرت فقط نعمة العقل لعشت العمر تحمد الله عليها وما وفيت.
أشكر كل من أتاح لي فرصة القيام بهذه الرحلة داخل ذاتي والتي فجرت بي طاقات لم أكن أتخيل وجودها بداخلي.
شكرا لكل من: قلب شجاع ، د. مصطفى السعدني، أ. عوني الحوفي، د. عمرو أبو خليل وزملاء الزيارة المصري وقلب جرئ وزوجة قلب شجاع؛ وشكر خاص لزوجي على سماحه لي بالقيام بهذه الزيارة.
اقرأ أيضاً:
حينما نسرق الجنس!/ جاثوم الجنس والفتاة العربية.. خبرة ومحاولة.. (4)/ التلفزيون يطفيء الرغبة الجنسية