![]() |
ظهر الأمس 28 شوال 1446- 27 أبريل نيسان 2025 داهمتني رسالة على الواتساب من د. رفيف الصباغ تقول: أنا أخت رفيف، رفيف ماتت. لم أصدق ما قرأت فرددت مسرعا أقول ماذا تقولين بالله عليك؟ ولما لم أتلق ردا سريعا اتصلت تليفونيا وإذا بي أسمع صوتا شعرت أنه ليس صوت رفيف لكنني رغم ذلك قلت السلام عليكم رفيف؟ فجاء الرد رفيف الله يرحمها قلت كيف ذلك؟! قالت لا نعرف دور برد؟! احتشاء؟ أم ماذا راحت المشفى أمس واليوم ماتت قلت الله البقاء لله والدوام لله ولم أكن قادرا على الكلام..
رفيف الصباغ كانت هدية الله لموقع مجانين لأنها واحدة وحيدة تخصصت في الفقه للموسوسين، وهو ما كان كفيلا بإنجاز ما لم أكن أحلم به شخصيا قبل مقابلتها وقراءة ما كتبت وما نقلت من كتب الفقهاء المعتمدة في كيفية التعامل الشرعي مع المبتلين بالوسوسة، هذا التميز الذي مثلته رفيف الصباغ بين الناشطين من الفقهاء المعاصرين كان أيضًا هدية من الله وتميزا لموقع مجانين وهدية متاحة على صفحاته لكل الحائرين من الموسوسين، ولا أحسبني قادرا على إيفائها حقها مهما كتبت لكنني سأسرد هنا بعض تفاصيل علاقة عمل تطوعي تفضلت به د. رفيف على الموقع على مدى 17 عاما، بعضه ظاهر على صفحات الموقع وكثير منه في الرسائل الإليكترونية المتبادلة بينها وبيني تسألني في علم النفس أو العلاج النفساني وأسألها في الفقه وفيما أجد من نصوص فقهية وكثير مما يتعلق بالموقع وما يقدم من خدمات.
في الثالث من أغسطس سنة 2008 م. 3/8/2008 أي منذ 17 عاما تسلم الموقع رسالة من رفيف الصباغ (33 سنة، طالبة دكتوراه في الفقه الإسلامي، سورية) تبلغنا فيها بأنها شرعت في عمل بحث فقهي غير موضوعها في الدكتوراه يتعلق بالوسواس القهري -وعرفت فيما بعد أن فكرة البحث في الوسواس القهري قدمتها ورفضت- وأن لديها معلومات ونصوصا فقهية ترى أنها تهم موقع مجانين باعتباره يهتم بالجانب الشرعي في العلاج النفساني للموسوسين وهي.... إلى آخر التفاصيل كما دونتها في وقتها على الموقع تحت عنوان: فقه المُسْتَنْكَح!: سلاسلُ ذهبيةٌ في علاج الوسواس وقد اعتبرت سطورها لنا عن فقه المستنكح بالشك (وهو الفقه الخاص بالموسوسين في المذهب المالكي) بمثابة سلاسل الذهب التي يتحلى بها موقعنا مجانين.
ثم شاء الله أن أسافر إلى سوريا للمرة الثانية في حياتي-كانت الأولى عبورا إلى لبنان إبان حرب تموز2006- خلال أقل من 3 أسابيع لحضور مؤتمر "النتائج النفسية للعنف" في سوريا وأبلغتها كما أبلغت د. ملهم الحراكي ود. عبد الرحمن إبراهيم بزيارتي لدمشق، وكانت الجمعة 22/ 8/2008 اليوم الثاني لي في دمشق وكان قدرا مباركا لي وقتها أن ألتقي تلك الباحثة أو طالبة الدكتوراه أ. رفيف الصباغ كما وصفت في مدونة شكرا سوريا مؤتمر مختلف2، وقتها جاءت تحمل هدية خشبية تراثية من الفن الدمشقي-وما كان أكثر هدايا السوريين رفيف وملهم وعبد الرحمن- ومعها أختها وطالبة علم أظن من ألبانيا أو مقدونيا إن لم تخني الذاكرة.
وكانت تلك بداية سلسلة مقالات منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (1-11) اكتشفنا ببساطة أنها كنز مبارك أهداه الله لموقعنا فقد وعدت بالتعاون معنا في تأصيل ووضع أسس العلاج المعرفي السلوكي لمرضى الوسواس القهري المسلمين ليعيننا على خدمة مرضى الوسواس القهري خاصة في جوانبه الدينية، هذه المهمة التي شغلتني منذ بداية عملي مع الموسوسين وبالفعل وعدت رفيف ووفت بوعدها ما استطاعت.
بدأت إذن بكتابة المقالات الفقهية عن أمور وأحكام الموسوسين، ثم لما رأيت عمق معرفتها بعلم النفس والاجتماع والعلاج النفساني اقترحت عليها أن تشاركنا الإجابات على موقع مجانين لأننا نعتبر دعم التعاون بين المعالج النفساني والمعالج الشرعي (والفقهي على وجه الخصوص) وكلاهما يقدم المشورة لنفس الأسئلة في كثير من الأحيان، ولدينا في هذا الموضوع أحاديث ذات شجون يضيق المقام بها اليوم.
ظهر أول رد لها على مجانين بعد لقائنا في بهو شيراتون دمشق بأقل من شهر: غلطانة أم مجرد مراهقة؟ صح الصح! وظلت فترة تجيب على استشارات نفسية واجتماعية وعاطفية، وفقهية ونفسية وظلت واحدة من أنشط المستشارين فيما يتعلق بسرعة الرد وأخفهم تحميلا عليَّ لأن دقتها في اللغة العربية لا تبارى فلا أحتاج لتدقيق الإجابة فقط أقرؤها لأتعلم كيف ينظر الفقيه لمشكلاتنا المعاصرة، بل إنها في سنوات عملها الأولى (أواخر 2008- أوائل 2012) كانت تدقق نص السؤال لغويا لتخفف عني بعض ما أقوم به من مهام.
ربما لثلاث سنوات من 2009 حتى 2012 لم تكن رفيف تتأخر أبدا في الرد على استشارة إلا في حالة وجود ما تحتاج البحث فيه من الناحية الفقهية وأكثر من مرة كانت في النهاية ترد على السائل قائلة لم يهدني بحثي لقول في الرد على سؤالك أي لا أعلم، وبينما كنت أحسب أن تخصصها في أصول الفقه يعني أنها تستطيع الرد على كل أسئلة الموسوسين الفقهية بنفس السرعة التي أستطيع فيها كطبيب نفساني أن أرد على كل أسئلتهم الطبية أو العلمية، تعلمت منها خلال النقاش أن الأمر يختلف فهي تحتاج أن تراجع وتبحث للرد على كثير مما يرد في استشارات الموسوسين لأن آراء الفقهاء كثيرة وهي تحاول البحث عن الأيسر للموسوس بشكل عام وربما لكل حالة بشكل خاص، والحقيقة أنني -حين شرحت لي منهجها في الوصول إلى ما يقنع السائل- فهمت أن فقهاء المسلمين بدأوا تخصيص الرعاية الفقهية للسائل قرونا قبل الصيحات الجديدة لتخصيص الرعاية الطبية Personalization of Medical Care
ثم مع تطورات وعواقب ما حدث في سوريا من أحداث دموية صاحبت الثورة، ومع زيادة الضغط على الموقع -النفساني الاجتماعي- من طالبي رد د. رفيف الصباغ أرسلت تقول: لم أعد أستطيع الوفاء بالتزامي القديم بتدقيق نص الاستشارة لغويا، ومضت السنوات وهي تحاول أن تبقى دؤوبة في ردها على الاستشارات رغم اضطرارها للتأخر بسبب انقطاع الكهرباء واقتصارها على ساعات محددة في اليوم ولم تزل كذلك حتى أصبحت تعتذر عن إجابة ما يمكن أن يجيب عنه غيرها، وبالتدريج زاد طلب الموسوسين تحديدا على رفيف فأصبحت تجيب فقط على ما يتعلق بالوسواس القهري أو ما يحتاج إلى فتوى فتعتذر عنه أ. شيماء العزازي التي تصر على أن تختص بأمور العقيدة وهو تخصصها.
في ذلك الوقت انشغلت أنا بكتابة كتاب جديد عن الوسواس القهري بحيث يشترك فيه النفساني والفقهي في جانبي الفهم والعلاج وكانت كتابات د. رفيف على مجانين هي مرجعي الدائم غالبا، وأذكريرحمها الله أنها أتعبتني حتى ترضى بأن أضع اسمها مع اسمي وظلت ترفض شهورا أقول لها طيب أنا آخذ منك وأكتب وآخذ منك وأفكرثم أكتب، وقد وعدت بأنك ستراجعين وتصوبين كل ما يتعلق بالجانب الديني لماذ لا يكون اسمك على الكتاب؟ ثم بعد حوالي نصف سنة أو يزيد وبعد إلحاحي والذي دفعها لعرض الموضوع على واحد من مشايخها فنصحها بأن توافق... أخيرا وافقت رفيف ولعل وجود اسمها هو جعل وزارة الأوقاف الكويتية تطبع الكتاب ضمن سلسلة قيمة اسمها روافد، كنت بعد إتمام الفصل أرسله لها فتقوم بقراءته ومراجعته ووضع الملاحظات وكان تصفح الملف بعد وروده منها يذكرني بما خطت أصابع أستاذي د. يحيى الرخاوي يرحمهما الله في مخطوطة كتابي الأشهر عن الوسواس القهري فيما يتعلق بالدقة والعمق لكن مع اختلاف السرعة اختلافا كبيرا فقد قرأ أستاذ الأجيال د. يحيى الرخاوي كتابي وعلق عليه بمنتهى الدقة والعمق في أغلب الصفحات في ليلة واحدة، لكن رفيف كانت دقتها تجعلها أبطأ.
في السنوات الأخيرة وتحديدا منذ سنتي الجائحة ومع ما بدا من انحسار الثورة السورية وتدهور الوضع الاقتصادي لسورية إلى مستوى غير مسبوق، بدأت د. رفيف عملا تجاريا خيريا وأصبحت تشرف على العاملين وبدأت تشعر بكثير من الذنب لتقصيرها في حق مجانين، وفي نفس الوقت بدأت ترد لي بعض ما تراكم لديها من استشارات قائلة: هذه أجبتم على مثلها من قبل يا دكتور! وهو ما يعني أن أتولى الإجابة بنفسي، ولأنني كنت حريصا على التعلم محاولا الانضباط فقهيا فيما أكتب فقد كنت أكتب الرد وأطلب منها مراجعته وتصويبه، وسأضع لكم فيما يلي بعضا ردودها على أسئلتي لها على الواتساب عندما بدأت تزداد الضغوط عليها، فمثلا: أرسلت لها في 18 مايو 2020 أستعجلها وكنا في رمضان قلت: السلام عليكم....... كل عام وأنتم بخير نحتاج إجابات... أرجو أن تكوني بحال تسمح لك ووالله إنها لعبادة مأجورة.... رب رمضان كريم، وأجابت (وعليكم السلام: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، هانت.. سيأتي العيد بعد أيام، الإجابات الشرعية أجيب عليها بكلمتين أو سطرين، أما إجابات الموسوسين فأنا في حالة الإفطار أقرأ السؤال أول يوم والثاني والثالث أيضا حتى أعرف كيف أجيب)
أضع بعد ذلك بعضا من ملاحظاتها على إجاباتي من الجانب الفقهي كأمثلة، فمثلا أرسلت بتاريخ 29 مارس 2024 تقول: (إجابة رائعة ما شاء الله، لدي ملاحظة واحدة: قولكم: (حكم هذه النقطة أنها وسواس أي أنه لا فرق بين ما توهمت وما هو حقيقي واقع لأنك غير مطالب بالتفريق ومنهي عن التفتيش...) الحكم العام بغض النظر عن الموسوسين، أن الإنسان غير مطالب بالتفتيش، ولكنه إذا اكتشف فيما بعد وجود النجاسة يقينا حال إتيانه بالعبادة فهنا لا نقول له إنك متوهم وما كان ينبغي لك أن تفتش، وإنما عليه أن يعيد صلاته... ولكن لاحظوا كلمة (يقينا)... يعني قد تكون النقطة عرقا وليست بولا... والأصل الطهارة... وقد تكون النقطة بولا لكن لا نعرف متى نزلت، هل قبل العشاء بقليل، أم قبل أداء صلاة المغرب؟ وعندما لا نعرف، نجعل وقت حصول هذه النجاسة هو أقرب وقت محتمل لزمن اكتشافها... يعني نقول إن صلاة المغرب مضت صحيحة، الوضوء لم ينتقض، والثياب طاهرة... ونعتبر أن هذه النقطة خرجت قبل دخول المرحاض بقليل (فيما لو تيقنا من كونها بولا وليست عرقا...)، من الممكن أن يقول أحدهم: ولكن النقطة لا تنزل إلا بعد التبول بقليل، ولا يمكن أن تنزل قبل العشاء.... هنا لكل حالة إجابة ولكل موسوس ما يناسبه من أحكام علاجية.)
وفي 31 مارس 2024 قالت تعليقا على سؤال بخصوص المفرازات النسائية: (الأصفر ليس له حكم واحد، الأصفر النقي طهر وليس حيض، الأصفر الثخين الكدر الذي به أثر الدم هو حيض ما دام ضمن ١٥ يوما فإذا كان نزوله يتجاوز ١٥ يوما (بما فيها أيام الدم) فهو استحاضة. أي إذا انقطع الدم ورأت هذا الأصفر الذي به أثر الدم تغتسل وتصلي).
وفي 11 أبريل 2025 قالت بالنسبة لثالثا في أول استشارة قلتم (فقط نرجو أن يكون حدوث الحالة تلقائيا يعني لا يكون بسبب تفتيشك أنت) غالبا ستكون عبارة غائمة بالنسبة للموسوس وسيظن أن السب إذا كان بسبب التفتيش فإنه يكفر!!! شعرت أن هذه العبارة فيها مشكلة رغم ذكركم بعدها أن التعمد وغيره سواء في عدم التكفير)
بل كانت يرحمها الله تراجع ما ظهر على الموقع وتصححه لي ففي 13 أبريل 2024 (أقرأ الآن الاستشارات القديمة لماهيتاب لأجيب عن سؤالها، فوجدت في إحدى متابعاتها ما ذكرتموه عن طهارة الكلب عند المالكية، مع أنها كانت تتكلم على حرمة تربيته لغير صيد أو ماشية... وأود التنبيه أن طهارة الكلب شيء وحكم تربيته شيء آخر... تربية الكلب لغير صيد أو ماشية حرام عند المذاهب الأربعة، فلا يستشهد بطهارته على حل تربيته).
وفي 23 أبريل 2024 عادت تشتكي من حمل مجانين الثقيل فكانت شكواها مرة بحق قالت: (السلام عليكم... رجعتم إلى إرسال الاستشارات رشا ودراكا، أصبح هناك ١٣ واحدة تنتظر الإجابة، وأنا الآن متعبة قليلا، ولن أستطيع الإجابة سريعا، والنتيجة: عندما يزيد التراكم سوف أستثقل الإجابة وأشعر بالتقصير وتطير الهمة ونصل إلى مرحلة (بطلت أجيب).. حرام يعني... أنتم طبيب نفسي، وأنا لا أتحمل هذا... لا أستطيع أن أرى في بريدي أكثر من 5 استشارات لم أجب عليها، صرت أكره فتحه!)
وكان آخر تعليق لها على إجابة لي بتاريخ 15 مارس 2025 (جزيتم خيرا.. لكنني أخشى أن تفهم أو يفهم غيرها أن اليسير يجوز ابتلاعه ولو عمدا لتعليلكم بعدم إفطارها بأن الجلد أيسر من اليسير، وأنا هنا لست على دراية بتفصيلات المذاهب في هذه المسألة، حبذا لو اقتصرتم على تعليل عدم الإفطار بعدم التعمد)
وفي سنة 2024 أيضًا عرفت من عبد الرحيم الريفي أن دليلا صدر باللغة الإنجليزية في كيفية التعامل مع الوساوس الدينية وأن موقع مجانين وإجابات د. رفيف الصباغ كانت من أهم المراجع التي استند المؤلفون إليها، وأذكر أني أرسلت لها معاتبا ولم تجب على الإيميل وإنما على الواتس (سأجيب هنا.... قلتم (وطبعا أنا أكسل منك فيما يجب أن يفعل مفروض يصدر دليل بالعربي الأول، ولكن مجانين عطلانين) لنر الجانب الإيجابي في الموضوع، الله يعلم نيتنا بأننا نريد كتابة ذلك، ويعلم أنه لا يتيسر لنا، فأرسل من يساعدنا ويقوم بالمهمة، ونؤجر دون أن نشعر!!، وربما يهتم الباحثون بالإنجليزية بذلك أكثر من بلاد العرب أوطاني!) وكان ذلك يوم 4 أغسطس 2024.
ورغم كل ما تقدم فإن د. رفيف ما تزال ثالث المستشارين فيما يخص عدد الاستشارات المجاب عليها كما يظهر من القائمة في صفحة الاستشارات... بلغ ما وصلنا رده منها 1327 استشارة ظهرت الأخيرة منها يا لطيف موسوسة تسأل عن فتوى رفيف! م2 يوم السابع من أبريل 2024
أخيرا هذه المرة -على وعدٍ بمرات نتذكر فيها أفضال د. رفيف- يأتي ما أرسلته يرحمها الله بتاريخ 6 فبراير 2025 (بالمناسبة، بدأت في البحث لتأسيس مشروع اجتماعي جديد يتعلق بالأطفال ورعايتهم الاجتماعية والنفسية... تحت رعاية إحدى الجمعيات، وأضحك في سري وأقول: ماذا بقي من وقتي لمجانين؟ دعواتكم بالتيسير... وأمركم لله) وكان ذلك استجابة منها ورغبة في مساعدة الأطفال السوريين من ضحايا الحرب ذوي الرضوض النفسية واضطراب الهُوال وهي أعداد لا يستهان بها من حصاد 14 عاما من أهوال الحرب في سورية، هكذا كانت رحمة الله عليها تنوء بها أثقالها من أعمال الخير فإذا رأت محتاجا حملت أثقالا على أثقالها.
واقرأ أيضًا:
الكفالة الربانية للشام.. / مِنْ وَحْيِ المُنَاقَشَة...!