ها هو رمضان قد جاء.... واعذروني لن أتحدث عن ليلة القدر مع ما لقدرها من شأن... لن أتحدث عن كمْ ختمة سنسعى إليها، ولا كم ركعة سنقيم... لن أحدّثكم عن الأئمة والقرّاء وأيّهم أحسنُ صوتا أو أروعهم نغَما....
سّأحدّثكم عن "العبادة" وأحاول الإشارة لوجه من وجوهها (بطريقة لاذعة ربّما) سأحدّثكم عن نوع من التنسّك، عن تصحيح الأفكار، وتصحيح المفاهيم، سأحدّثكم عن شيء حتى إن صدّتنا عنه نوافل أخرى، فإنّه يبقى "عبادة" ملّحة والله... فما الغرض من التسابق على ختم القرآن ونحن ننظر له كأنه أساطير الأولين!؟ وما الفائدة من البكاء وراء الإمام من الإجلال، إن كان تافه كذاب سينزع منا ذلك الإجلال بعد الصلاة بفكرة؟!
ما الفائدة من شدّ الرّحال للمساجد، والعقول مكبّلة في الغياهب؟
ما الفائدة من عاطفة دينية تتعارك مع عقلية علمية؟
ما الفائدة من قراءة كلام الله رسما وتضييعِه وسْما؟!.....
أسئلة كثيرة في الحقيقة.
ولو أخذنا على أنفسنا عهدا في كل رمضان من كل سنة، بتصحيح مفهوم واحد أو فكرة واحدة، أو تقويم طريقة التفكير عندنا (مع كل العبادات التي نفعلها) لكان لرمضان معنى إضافيّ، سيكون بمثابَة محطّة فكرية لكل الأمة، كما كان محطة تعبّدية لها. علّنا نتجنّب بعض ما سأذكر:
إن تقاعس المسلمين عن البحث والتنقيب في أخطائهم، وتصحيح آفات منهجهم في النظر للعالم والواقع والموروث، يجعلهم عُرضة "لمتلازمة شعب الله المختار"! ويزيدهم "دوغمائية" وتصلّبا إزاء جديد الأفكار. فيمكثون مطمئني البال مرتاحي الضمير، ينتشون بإحساس يغمرهم ويقول لهم "إنّكم أهل الحقّ" في الصغيرة والكبيرة.
وتمرّ العقود وغاية جُهدهم قد تكون طعنا في نية الإصلاح عند من خالفهم، وأراد أن يوقظهم، أو إقصاءً بكل ثقة لمن انتقدهم من غير المسلمين، فهو على أيّة حال، لن يفهم شيئا عن "إحساسنا العظيم بامتلاك الحقيقة"... !
وتمرّ القرون وتدور الدائرة وتصير الغلبة الثقافية والفكرية لقوم آخرين، فتكثر الهجمات، ويطغى حبّ السيطرة علينا كأمة متقهقرة. فنفيق على إثر "الصّفعات والركلات" الثقافية والحضارية. وتبدأ الصدمة الوجدانية حين يُخرِج لنا عدوُّنا ما لم ننتبه له طول ركودنا، بطريقة لا نزاهة فيها ولا صدق!. ويصير حالنا بين هرِع لمعرفة الخلل ومنكمِش لتجنّب الزّلل! والنّوع الثاني أكثرْ للأسف، لغلبَة طابع التوجِّس والكسَل.
(حتّى إن أخذ الكسل والخجل شكلَ "ثقافة تحرّرية استعلائية" فهو فِرارٌ وعجز مُقنّع في نظري)
نحن الذين نؤمن بأن الله جل وعلا هو الخالق، ومن أسمائه "الحقّ" والحقَ يقولُ، وبه يحكم، وله أراد التمكين ولو بعد حين. ينبغي أن نعلم شيئا مُهما بخصوص "الحقّ" سبحانه، فما إن يَرى ممّن حمَلوا رايَته زيْغا وفُتورا وتحويرا لذلك الحقّ، مع ادّعاءِهم امتلاكَه، سلّط الله عليهم صراعات حضارية وثقافية وفكرية لعلّهم يستفيقون، لعلّ الحق عندهم ينتفض وتسقط منه الشوائب الغريبة عنه. فإن أبوْا إلا سُباتا، سلّه الله منهم ليُورثه قوما آخرين، وإن لم يوجد من يستحقّه، نزع حقوق الملكية من كلّ البشر ليبقى الحقّ مجرّدا عن كل ادّعاء زائف لا يُعرف إلا بدليله مستغنيا عن كل مُصادرة من قِبل أي جماعة. وهي مرحلة تستدعي مقولة "الحق لا يُعرف بالرجال" أكثر من أيّ مرحلة أخرى. يشعرُ فيها من يتبنّى الحق بالدليل والبرهان أنه بدون وطن ولا انتماء، ولا موطئ قدم!
يكاد الحق يكون فيها مبعثرا على طوائف ومذاهب وفلسفات كثيرة، على الأقل في غير خطوطه العريضة.
لذا أرى أنّ الهجوم على الثوابت والأفكار الخاصة بنا ليس كلّه شرّ (فلا تحسبوه شرّا لكم بل هو خير) ووعيي بهذا لا ينفي طبعا معاداتي لمن يقومون بذلك بطريقة ممنهجة ممزوجة بجهل عقيم وخُلق سقيم.
وأخيرا أقول: ما أحدٌ أحبّ إليه الحقّ وأبغض إليه الباطل من الله تعالى، ومع ذلك أبى أن يترك الحق خاملا مشوّها ناقصا، فهان عليه هجوم أعداء الحق على الحق، في سبيل "رِفعة الحق" ولا عزاء للمدّعين في مسارٍ، تلميعُ الحقِّ فيه فوق كلّ شيء.
فأرجو من أعماق قلبي أن يكون رمضان بالنسبة للكثيرين، شهر التعلمّ، شهر تصحيح الفكرة، قراءة كتاب يصحح العقلية...
ومن أحب أن يعترض عليّ بأن كتاب الله خير كتاب، وهذا مما لا نختلف فيه، أقول له:
حتى إن كان الإنسان جاهلا، فليقرأ كتاب الله تعالى وليسمعه فإنه "عظيم" وله أثر رائع على النفوس... ولكن يجب أن يتساءل عن حال الذين كانوا يختمون القرآن في رمضان مرتين أو ثلاثا منذ سنوات ! هل تغير حالهم، هل عملوا بما فيه، هل جسّدوا روحه ؟!! أسئلة تختصرها عبارة:
ـ كتاب الله خير كتاب، فهل قراءتنا له خير قراءة ؟!
هذه هديّتي لأصدقائي وإخواني، ومباركة على طريقتي فتقبّلوها منّي
واقرأ أيضاً:
على باب الله: رمضان حالة / رمضان هل نعرف الله؟!! / سذاجة بعض القصص الوعظية / رمضان والتقوى!! / رمضان والقرآن!! / رمضان عندما يصير مصدرا للإحباط