سأواصل الكتابة عن التجربة الساحرة التي قدمها الأستاذ وسيم خالد في كتابه "الكفاح السري ضد الإنجليز"، عن دوره في المنظمة الإرهابية التي تشكّلت من مجموعة محدودة من الصبية، أغلبهم من طلاب المدارس الثانوية، وقام بتدريبهم على إطلاق الرصاص وتفجير القنابل ضد ضباط وجنود الاحتلال الإنجليزي والمتعاونين معه من الساسة المصريين، اليوزباشي المفصول من الخدمة آنذاك أنور السادات.
كانت المنظمة تتشكل من صبية صغار السن من أبناء الأغنياء ومساتير الناس، وكلهم وطنيون لا هدف لهم إلا تحرير مصر مهما ضحّوا من أجلها، بعد أن فشلت الأحزاب والسراي والإخوان والشيوعيون في تحقيق ذلك الهدف، بل وخان بعضهم القضية وارتموا في أحضان الاحتلال حسب رأيهم. لم تقم المنظمة باغتيال عدد من ضباط وجنود الاحتلال فقط، بل قامت أيضا باغتيال الوزير السابق والسياسي المعروف أمين عثمان باشا عام 1946، وكان قد صرح بأن العلاقة بين مصر وبريطانيا العظمى علاقة زواج كاثوليكي لا يبيح الطلاق. وكانت العملية الأخيرة تحديدا موجعة بشدة سواء للاحتلال أو الحكومة المصرية، وهو مادفعها لتضييق الخناق وتوسيع دائرة الاشتباه، ومع ذلك فإن الصدفة وحدها قادت أجهزة الأمن للقبض على حسين توفيق ابن وكيل وزارة المواصلات وزعيم التنظيم.
اللافت للنظر أنه لم يكن هناك دليل واحد ضد حسين توفيق، ومع ذلك استطاع المحققون أن يغافلوه ويحاصروه، ثم يوقعوا به بعد أن صمد عدة أيام في الحبس الانفرادي. تحول إلى خرقة يتلاعب المحققون بها، وأدلى باعترافات كاملة وتفصيلية على الجميع، بما فيهم اليوزباشي أنور السادات الذي قُبض عليه بالفعل. والحقيقة أن الصفحات التي يرصد فيها وسيم خالد حالة حسين توفيق من أصدق ما قرأت عن انهيار زعيم فاشي ووطني، بعد أن كانت جسارته وشجاعته في الهجوم على جيش الاحتلال وعملائه لايمكن التشكيك فيها.
ولايرصد وسيم خالد اعتراف وانهيار حسين توفيق وعدوله عدة مرات عن شهادته فقط، بل يسجل بدقة نادرة كيف انهار هؤلاء الصبية الشجعان، وكيف اعترفوا واحدا وراء الآخر بمجرد علمهم أن زعيمهم انهار ثم عدولهم عن اعترافاتهم عندما يعلمون أن زعيمهم فعل ذلك. كيف كرهوه واحتقروه، بل ودبروا لاغتياله داخل السجن. كيف تحللوا وتفسخوا، وتحولت العلاقة بينهم إلى حروب طاحنة وكراهية تفوق كراهيتهم للاحتلال، بعد أن اتهم بعضهم البعض بالعمالة والجاسوسية. وفي الوقت نفسه، كان هناك أعضاء آخرون لم تتوصل لهم أجهزة الأمن، كان من بينهم الصبي ابن الأربعة عشر عاما وسيم خالد، الذي اصطحب معه ولدا آخر في سنه، وقررا مواصلة الكفاح السري لتقوية موقف رفاقهم الذين أُلقي القبض عليهم، دون أن يعلما بالطبع أن الأخيرين انهاروا واعترفوا، وقاما بالفعل بالتخطيط لاغتيال أحد جنود الاحتلال إلا أنه تم الإيقاع بهما قبل تنفيذ عمليتهما.
وأخيرا فإن الدراما السيكولوجية الكبرى تجري داخل السجن، بين المعترفين، ومن رفضوا الاعتراف، والمواجهات بينهم لا تتوقف، والكاتب يتمتع بمهارة سردية لافتة، ودراية بالسيكولوجيا مكّنته في النهاية من إنجاز هذا العمل اللافت حقا.
واقرأ أيضا:
نجيب محفوظ يعلمنا، القتل العبادة = ثقافة الحرب!!/ كيف استطاع نجيب محفوظ أن يحِب: كل هذا الحب؟!!/ تعتعة سياسية: دورية محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزة/ نجيب محفوظ: بداية بلا نهاية