يحلو للبعض أن يصف علاقة التنظيمات الفلسطينية بقضية تحرير فلسطين بعلاقة أشبه بالعبثية في ظل الاتفاقات ثم الخلافات والاختلافات المفضية إلى صدامات أحيانا ثم مصالحات ثم اتفاقات ثم خلافات و..و.. دائرة مفرغة من العبثية.
نظرة سطحية للمشهد مغلفة بزوايا إنسانية قد تدفع البعض لاتهام الفصائل بتحويل قضية الشعب الفلسطيني من شعب يريد تحرير وطنه، وقضية شعب يسعى لاسترداد أرضه المحتلة، إلى شعب انحرف عن سبيل التحرير إلى مسارات جانبية، يخفت فيه صوت قعقعة السلاح، وتتقزم فيها النظرة السياسية الشاملة للقضية، ويعلو فيها صوت الإغاثة، ولا يبقى من صورة للشعب الفلسطيني في الفضائيات البكائية غير عدد من اللقطات المزيفة التي تدس السم في العسل. وتصور الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس كشعب معزول بائس، يطلب غذاء ودواء وكساء ومساكن ومعونات، بما يجعل كلمة المانحين هي العليا، وسواء كان هؤلاء المانحين من العرب اللاهين أو من الأوروبيين أو من الأمريكيين الماكرين.
ولقد عودنا هؤلاء اللاعبون بمقدرات الشعوب من المانحين على الكذب والخداع، فقد منحوا الشعب الفلسطيني في أكثر من مؤتمر للإعمار الكثير من المليارات التي لا يصل منها سوى النزر الحقير في الحقيقية للمجروحين والمحرومين، في حين لا يبقى من الصورة الوردية في شرم الشيخ أو القاهرة لا فرق سوى الأخبار التي تحشو بها الفضائيات نشراتها عن نزاعات حول إدارة بوابات السجن الكبير – المعابر- أو أماكن وضع جنود عباس أو رجالات حماس، ثم تتوج بتوافقات هشة سرعان ما تتبخر عند أول محاولة للتنفيذ.
هل هذه الحلقة المفرغة موجودة في الأساس..!!
نعم إنها موجودة وكان صاحبها والمؤسس لها المناضل الكبير ياسر عرفات الذي خلق على جانبي حركة فتح العملاقة كثير من الحركات والفصائل التي استنسخها من بعضها البعض لتشكل حولها كومبارس من المستفيدين المختلفين مع بعضهم المؤيدين لكل خياراته. وضع أبو عمار الفلسطينيين - متكئا على أصوات الكومبارس- في هذه الحلقة المفرغة بذهابه دون استفتاء أو تصويت أو إجماع من عموم قوى الشعب الفلسطيني وألقى بالقضية في آتون رحى أوسلو، الذي وضع العربة قبل الحصان، وافترض إمكانية إقامة سلطة قبل تحرير الوطن، والمحصلة كانت وكما يرى الجميع:
سلطة تحت بساطير الاحتلال، لا يستطيع أي زعيم فيها بدءا من الرئيس وحتى أصغر رأس فيها التحرك بدون إذن مسبق من مجندة لعوب على حاجز للاحتلال.
وفرت أوسلو الأمن والأمان للجنود كما المغتصبين الذي رأوا فيها أفضل مناخ للتوحش الاغتصابي اليهودي في القدس والضفة الغربية، وبلا أي تكلفة أمنية تذكر حيث يقوم التنسيق الأمني بمهمة تعقب التنظيمات الفدائية في القدس والضفة.
ألقت بعبء التكفل بحياة السكان الفلسطينيين وإعاشتهم على السلطة الوظيفية، الأمر الذي خفض تكلفة الاحتلال إلى حده الأدنى.
إلا أن المقاومة في غزة كان لها رأي مختلف حيث أجبرت الاحتلال على الهروب منها 2005م حين شعرت بعبء التكلفة الدموية للاحتلال المباشر.
وفي سيناريو مكرر كلاكيت ثالث مرة وقع دمار مضاعف لغزة في الحرب الأخيرة على غزة 2014 فاق بأضعاف حجم الدمار الذي خلفهما عدواني 2012 و2009م.
قد يرى البعض أن "اسرائيل" كانت هي التي تبادر بالعدوان لإضعاف حركة حماس وبقية الفصائل المسلحة، وأن حماس كانت ترد بقوة تزايدت مع الزمن، ثم يجري وقف إطلاق النار بالوساطة المصرية، أي أننا بصدد الدورة المفرغة نفسها، عدوان دوري يتكرر مثل مونديال كرة القدم، ومقاومة موسمية باسلة، ثم يتوقف لهيب النيران ليبدأ الأنين والوجع من السكان والتسول والتربح من الانتهازيين في السلطة.
وهكذا يرى البعض نفسه في دوران مهلك، لا يعود يتذكر معه من قضية الشعب الفلسطيني الأصلية شيئا، بل يتوه في أرقام ووعود المانحين، وفي استجدائها، وفي مناكفات بين عباس وحماس التي لا تنتهي، ويتجاهل هؤلاء الذين يصفون أنفسهم أنهم من المحللين وقادة رأي المشهد العام الذي تمر به المقاومة الفلسطينية التي تتقدم من طور إلى طور آخر في قفزات كبيرة نحو الأمام، بموازاة مشهد الانهيار الذي يمر به الواقع العربي.
كما يتناسى هؤلاء أن المقاومة المحاصرة في غزة لنحو ثماني سنوات كاملة، كان أشدها العام الأخير خصوصا بعد إسقاط الرئيس محمد مرسي، والتي كانت تعاني من حروب متعددة على عدد من الجبهات كتجفيف موارد الدعم والإسناد المالي والعسكري، وكحرب التشويه والتشكيك لفض الناس من حولها، وكحرب تجويع حكومتها التي عجزت عن توفير رواتب موظفيها.
هذه المقاومة استطاعت تحقيق عدد من السوابق في تاريخ الأمة العربية:
استطاعت أن تخوض حربا استشهادية بكل ما للكلمة من معنى، فحرب العصف المأكول كانت بلا خط انسحاب، وبلا خط إمداد، وبلا أي إسناد دولي، وبما توافر للمقاومة من إمكانات متواضعة في مواجهة القوة الرابعة في العالم.
استطاعت المقاومة أن تخوض أطول حروب العرب والتي استمرت 51 يوما، في الوقت الذي كان العدو يراهن على حرب لا تستمر أكثر من 24 ساعة في الوقت الذي امتدت فيه الحرب على مدار 1224 ساعة.
استطاعت المقاومة أن تجبر العدو على القيام بأكبر عملية تهجير داخلي من الجنوب نحو الشمال لنحو ربع مليون مغتصب صهيوني.
استطاعت المقاومة بجهوزيتها التامة أن تنزع من العدو أهم ميزاته التي تفوق بها على العرب في جميع حروبه معهم وهو عنصر المفاجأة والمباغتة التي كان العدو يكسب بها حروبه.
استطاعت المقاومة أن تسخر أكثر من 160 فضائية حول العالم ليشهدوا الفضيحة العسكرية للكيان الصهيوني وتبيان مدى هشاشته عندما أعلنت المقاومة وبتحدي معلن أنها ستقصف تل أبيب عند الساعة التاسعة، ولم يستطع كل سلاح الجو الصهيوني وكل منظوماته المضادة للصواريخ من وقف الصواريخ التي مرت من فوق رؤوس الجميع لتتساقط على تل أبيب ببث حي ومباشر.
استطاعت المقاومة أن تتفوق على كل حروب العرب بتمكنها من إيصال صواريخها لتطال أبعد نقطة في شمال فلسطين المحتلة حيفا وما بعد حيفا.
استطاعت المقاومة أن تعرض وأمام كل شباب الأمة اللاهية كيف يضع جنود القسام الأبطال أرجلهم على رؤوس جنود الجيش الذي طالما زعم أنه لا يقهر.
استطاعت المقاومة أن تخترق منظومة الأمن الصهيوني وتوصل رسائلها المرعبة لـ 80 ألف جندي صهيوني على حدود غزة، وأن تمنع رئيس أركان جيش العدو من الاقتراب من حدود غزة حيث صرح وأكثر من مرة أن المقاومة كانت تعرف تحركاته وتنتظره لتنال منه.
استطاعت المقاومة أن تملك زمام المبادرة لتنفيذ أول عملية ضفادع بحرية تتمكن من الوصول والنزول على شواطئ قاعدة عسكرية والنيل من العدو وتنفيذ مهمتها بإحكام لولا إرادة الله الغالبة حيث تمكن العدو من المجاهدين في طريق عودتهم للبحر بعد تنفيذ العملية.
والأهم من ذلك كله استطاعت المقاومة من الصمود لمدة 51 متواصلة أمام آلة حربية كانت تدمر كل شيء، ورغم ذلك حرمت العدو من التوغل في غزة سوى لبضعة مئات من الأمتار التي حفرت فيها المقاومة قبورا لجنوده.
فعلى المحللين وقادة الرأي أن يسألوا ويجيبوا أنفسهم في أي أكثر الأحلام وردية كانوا يتوقعون أن تصل المقاومة إلى هذه المراتب السامية في سلم النجاحات والإنجازات قبل عشرات سنوات فقط وليس أكثر..!!
تتقدم المقاومة ويصبح خيارها أكثر واقعية من خيار التفاوض الذي يقوده عباس منذ نحو 20 عاما من الويلات. تتقدم المقاومة الفلسطينية وسط انشغال المحيط العربي بقضاياه وحروبه الأهلية الدموية، وبتحول ربيعه إلى خريف من الدماء والأشلاء.
لذا يردد البعض ألم يأن الأوان بعد لتأخذ المقاومة زمام المبادرة السياسية لتحويل منظمة التحرير إلى وعاء جامع لكل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها حركتي فتح وحماس؟
أليس حري بالمقاومة أن تعقد جلسات مراجعة مطولة مع القادة النافذين في الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها فتح للتوصل إلى صيغ لتكامل المقاومة مع السياسية؟
واقرأ أيضا:
دولة غزة حلمٌ إسرائيلي/ النصر الإسرائيلي في الحرب على قطاع غزة!/ الموقف التركي من العدوان على غزة/ إعمار غزة ومحاولات إسرائيل الاستئثار بأموال المانحين/ انتصرت غزة.... رضخت إسرائيل