إن الطريق للفهم المتبادل يبدأ بأن يدرك أطراف النقاش -أي نقاش كان- أبجديات الحوار الراقي الذي يخرج الجميع منه بنتائج مفيدة حتى وإن لم تكن النتيجة اتفاقاً بينهم في الرأي. وبين الشخصنة والتماهي مع الرأي تضيع نصف هذه الأبجديات على الأقل إن لم يكن أكتر. إن كلا العلتين وجهان لعملة واحدة هي انعدام التمييز بين ذوات الأفراد وآرائهم. ففي الشخصنة يخلط المهاجم أو المعارض لرأي ما بين الرأي وصاحبه فتراه بدلاً من أن ينتقد الرأي بذاته يهاجم الشخص نفسه ولو بشكل غير مباشر من طريق التعريض واللمز والبعض يتخطى ذلك إلى الهجوم المباشر الصريح. وتكون ردة الفعل الطبيعية أن يتولد عند صاحب الرأي محل الهجوم رغبة في الدفاع عن شخصه إما بتفنيد للتهمة المنسوبة لذاته أو بإقامة حاجز دفاعي من التماهي بينه وبين رأيه يجعله يصر على الذود والدفاع عن رأيه حتى وإن اكتشف خطأه,فالأمر هنا صار هجوماً على ذاته نفسها وفي كلا الحالتين لا يخرج النقاش بشيء مفيد في أصل الموضوع بل يتحول إلى جدل عقيم من ذلك الذي نهى عنه أحكم الخلق صلى الله عليه وسلم بقلوله ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً)).
إن الشخصنة من طرف تقود إلى التماهي من الطرف الآخر والعكس صحيح، فحين يخلط المرأ بين رأيه وذاته ولا يتمكن من تمييز الحد الفاصل بينهما فإنه يعد كل هجومٍ أو معارضة لرأيه هجوماً على ذاته تستوجب الدفاع باستماتةٍ عن الرأي وعن ذاته في نفس الوقت, ويفترض جدلاً في اللاوعي أن الدفاع يقتضي الهجوم على شخص الطرف المقابل بدلاً من مقارعة الحجة بالحجة في الرأي موضوع الخلاف ونعود لدوامة الشخصنة والتماهي والجدل العقيم الذي ينتهي عادة إلى طريق مسدود. إن الجدل الذي يدور بهدف أن ينتصر طرف وينهزم آخر هو جريمة يرتكبها المحاورون في حق عقولهم وصحتهم وأعصابهم وحق المستمعين لهم إن وجدوا وعادة ما تكون تلكما النقطتان هما بداية الطريق نحو هذه الجريمة في كل نقاش.
إن هاتين السمتين صاراتا جزءاً لا يكاد يتجزأ من شخصية الكثيرين في مجتمعنا وليس مجرد عرض مؤقت يحدث أثناء النقاشات وينتهي بانتهائها, بل إنه يصبح طريقة تفكير وحياة على المدى المتوسط بل والطويل أحياناً ومن هنا يصبح المتماهون مع آرائهم أكثر راديكالية وعنفاً في مواقفهم عموماً ونلحظ ذلك على سبيل المثال في المتشددين من اليساريين والمتدينين, ويستتبع ذلك بالضرورة شخصنة الأفكار فتختل لديهم منظومة التفكير والبحث عن الحقيقة فيصبح الحق عندهم يعرف بالرجال بدلاً من الأصل الذي يقول أن الرجال هم الذين يعرفون بإقرارهم للحق ويصير الأشخاص هم محل المدح والاتباع أو النقد والهجوم بدلاً من الأفكار والآراء.
ولعل الساحة السياسية في مصر اليوم تضرب مثالاً حياً لقضية الشخصنة والتماهي ومدى خطورتها في ظل انتشار مذهل للبنية القسرية في التفكير بين العوام, بل وحتى بين من يسمون المثقفين ومن يلقبون بعلماء الدين وأساتذة الجامعات دون أن ننسى السياسين والإعلاميين دون شك (وهي ظاهرة ربما تستحق الدراسة بدورها ربما لا يتسع المجال هنا للنقاش حولها)، ومع هذا الانتشار الوبائي لتلكما الآفتين فربما صار من المندوب أن نربي عادة حميدة لدينا في بداية أي حوار كان بأن يبدأ أكثر الطرفين وعياً النقاش بشرح مبسط لهذه المشكلة على شكل محاولة لطيفة لإبرام اتفاق على أسس الحوار والنقاش قبل البدء فيه, ورحم الله صاحب الحكمة القائلة درهم وقاية خير من قنطار علاج.
واقرأ أيضاً:
السر باختصار / الإغلاق في العاشرة، بين المثالية والواقع / التطبيع مع الفساد / مفاتيح حل معضلة المرور / الرحمة والبديل الثالث / علامة تعجب