على الورقة رسمت خطاً، لم تأت فكرة بعد، أصبّر نفسي بأنها حتما ستأتي عندما أشرع في البدء.أنظر لخطي أتأمله من أكثر من زاوية وأضيف بعض رتوش حوله، ولم تأتِ. أترك الورقة وأمضي...
تأتيني فكرة فجأة، فأترك من معي غير مبال باندهاشهم وسخريتهم، وأعود جريا قبل أن أفقدها، أضيف خطوطا لخطي، فتتسع بسمتي على شفتي مع كل جرة قلم تحتل مساحة فارغة على الورقة البيضاء. ثم أتوقف. أتأملها فأجد أن في الجعبة فكرة أفضل. أغضب وألقي الورقة على الأرض، فتضيف الأتربة خطوطا لم أقصدها...
أتذكر ورقتي في زحمة حياتي فأحن إليها، أعتذر لها وأرفعها عن الأرض، احزن لما أحدثته الأرض فيها، فتلمع في ذهني فكرة أخرى، أبتسم وأعاود الرسم غير مبال بيدي المتسختين واللتين أضافتا مع كل حركة مني آثارا لم أقصدها. أسرح معها لا أدري كم من الوقت، فتوقظني انشغالات حياتي، اترك ورقتي قصرا على وعد بلقاء قريب...
أتسلل من حياتي كلما سنحت لي فرصه لأحظى بلحظة معها، أحيانا اكتفي بتأملها، وأحيانا أضيف إليها، وكلما عدت تتجدد أفكاري فلا أبخل على ورقتي بها.
تتنبه الحياة لغيابي فتخطفني من أمامها، تتملكها الغيرة منها عندما أعدها كلما ذهبت أني عائد لأكمل فكرتي، رغم أن يقيني يتحداني كل مرة أنها لن تكتمل، أقبل التحدي الذي لم أكسبه يوما ثم أمضي....
والآن...
ومع آخر أنفاسي في الحياة...
أنظر إلى ورقتي التي لم يعد بها مساحة بيضاء، وابتسم رغما عني عندما أتذكر خطي الأول، وأتذكر أفكاري التي لم تكتمل منها واحدة، معلنة انتصار يقيني على عنادي، ورغم حزني إلا أني أدركت بحكمة سني أن هذا هو سر جمالها،... فأغمضت عيني في سلام.....
سيأتي الفنانون من بعدي يتجادلون، يقول أحدهم إنه كان يقصد كذا فيقول الآخر لا.. بل كذا، كل منهم اقتطف فكرة من بستانها يبدأ بها خطا جديدا على ورقته البيضاء....
سيأتي النقاد ينقدونها، لو أنه أكمل هذا الخط لكان أفضل فيرد عليه آخر بل سر جماله أنه لم يكمله، ومع كل خط فيها يتبارون في نقده. ويتنطعون عل أحدهم يعجز الأخر...
وستأتي الأجيال تتغنى بجمال أفكار لم ترد على بالي لما رسمتها، وينبهروا بعبقرية لم أنلها. ويشيدون بإبداع لم اقصده فيستوحون إلهاما يشع في ظلمة قلوبهم نورا، وأصبح قدوة لم أكنها.
ويأتي طفل.. فينظر إليها غير مبال برسمة تشبه رسماته على حائط غرفته، غير أنها لم تكتمل...
اقرأ أيضاً:
أحمد الشاعر والقضية المنطقية