تحولت مخاوفي من رؤية "التوريث" نظاماً معمولاً به في بلادي إلى كابوس، يطاردني كلما أغمضت عيني. فأنا ـ ككثيرين غيري من أبناء هذا الوطن ـ بت مهموماً بمستقبله وأمنه واستقراره، خاصة بعدما أنطوت علينا الإشاعات المغرضة التي روج لها صحفيون مغرضون حول صحة الرئيس، لم نصدقها بالطبع، لكنها كانت من الخبث لدرجة أثرت فينا حتى صرنا ـ لا شعورياً ـ ننظر إلى كل الأوضاع الحالية باعتبار ما ستكون عليه مستقبلاً، لأن ما هو موجود الآن صار مؤقتاً في مخيلتنا، ولن يعمر طويلاً.
لم أتمن يوماً أن أرى نائباً للرئيس في بلادي، لخشيتي من استمرار هذه السياسات القائمة، فكنت أهدأ من روعي وأدعو الله ألا يستجيب السيد الرئيس لهذه الدعوات الخبيثة التي تحثه على اختيار نائباً له.. يكفي الرئيس مبارك أنه تحمل عبأ حكمكم طيلة هذه السنيين، ونحن معشر المصريين لا نحفظ جميلاً لأحد، فهل تراه يحمل وزركم بعد رحيله، لا أظنه يفعل.
ولما شرع المغرضون يهاجمون السيد جمال مبارك ـ ظلماً وعدوناً ـ زاعمين أنه يخطط لاحتلال المنصب بعد والده، كانت ضربات قلبي تزداد، خشية من أن يعاند الرجل معهم فيفكر في الأمر ويتدارسه، وما طمأنني إلا نفيه ذلك مراراً وتكراراً، فكنت أراني أميل إلى تصديق نجل رئيس الجمهورية، وتكذيب إدعاءات المدعين عليه.
فها هم رؤساء دول العالم يرحلون ويرحل معهم أبناؤهم، دون أن يكون لهم في الحكم نصيب، وهي سجية لها في تاريخنا الإسلامي شواهد، إذ لم نسمع أن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علي ـ رضي الله عن الجميع ـ ورث أحداً من أبنائه، بل لما حضرت الوفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وطلبوا منه أن يستخلف، قال: "ما أجد أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن بن عوف (متحرجاً أن يجعلها لواحد يعينه)، وقال يشهد عبد الله بن عمر (أي يحضر الشورى) وليس له من الأمر شيء"، فلم يستبعد أحداً من الحكم إلا ولده.. ومن تمام ورعه أيضاً أنه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو لأنه ابن عمه، وقال: "لست مدخله فيهم" مع أنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، لكن خشي أن يولى لكونه ابن عمه، ثم قال عمر قولته الشهيرة: "لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً".
مصر أكبر من ضيعة تورث، خاصة وأن جمال مازال شاباً حسب وصف كهنة النظام، وكلمة شاب تعني "عيل" في لهجتنا المحلية، وأنا أضن بأرض الكنانة أن يحكمها عيل، وهذا ليس تحقيراً من ابن بلدي جمال وإنما تعظيماً ـ لا أظنه يخالفني فيه ـ لهيبة مصر وتاريخها وحضارتها وسمعتها بين الأمم.. مصر أغلى من أن نقبل على عرضها مثل هذه العلاقة الآثمة، مهما حاول المخربون التسويق لشرعيتها.
لكن لا أخفيكم حقيقة، فرغم التطمينات والمسكنات وكل هذه الرسائل والحقائق التي لا يمكن أن يغفلها عاقل، مازال الخوف يراودني من هذا "الكابوس" الذي لم يفارق موضعه من نفسي، فالشياطين كثر في بلادنا، وهم ولعون ببث السموم التي تهيأ لهم الاستمرارية ولا يستطيعون العيش إلا معها، وما أخشاه أن يخرجوا علينا في اللحظة الحرجة بفكرة نارية من أفكارهم فتفسد آمالاً ظلت معلقة طويلاً بغية الإصلاح.
وإذ يتمثل لي "التوريث" كابوساً، يراودني حلم "التغيير"، التغيير الذي نشعر معه حقيقة أننا أحراراً، أحراراً فيما نختار، أحراراً فيما نعتقد، أحراراً فيما نقول، أحراراً فيما نكتب، ويكفينا ما ضاع من عمر هذه البلاد وهي خاضعة لإرادة قرينا السوء (الاستبداد والفساد).. المقصود أنني كتبت هذه الرسالة فقط حتى أنهيها بالتأكيد على رفضي مبدأ "توريث" الحكم في مصر، ولتكون تصويتا أمام الجميع أبرأ به ذمتي من هذه الجريمة، وحتى لا يقال يوماً أنني كنت من بين كذا % مؤيدون لهذه اللعنة التي لن تترك المصريين حتى تدخل معهم القبور.
واقرأ أيضاً:
الإسلاميون في مصر.. عقود من الإقصاء / مصيبة الأزهر وشيخ السوء